توقيت القاهرة المحلي 19:48:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

توفيق الحكيم.. من أوراق العمر

  مصر اليوم -

توفيق الحكيم من أوراق العمر

بقلم - فاروق جويدة

من أصعب العلاقات فى تاريخ البشر علاقة الكاتب بالسلطة قربا أو ابتعادا، رفضا أو قبولا .. وفى تاريخنا القديم حكايات تروى كان أشهرها علاقة المتنبى شاعر عصره مع كافور الإخشيدى الذى لم يحقق حلمه فى أن يكون محافظا وهرب إلى بغداد لكى ينتقم بقصيدة من أعنف قصائد الهجاء فى الشعر العربى «عيد بأية حال عدت يا عيد».. وفى عصرنا الحديث توقفت كثيرا عند العلاقة الفريدة بين الزعيم جمال عبدالناصر وكاتبنا الكبير توفيق الحكيم رائد المسرح العربى وأحد القمم الثقافية فى تاريخ الإبداع العربى .. وقد اقتربت من الحكيم سنوات طويلة وكانت بيننا حكايات وقصص تستحق أن تروى ..

ــــ من أهم الأحداث الكبرى فى حياة الحكيم العلاقة التى ربطت بين الحكيم وعبدالناصر حينما قامت ثورة يوليو، كان الحكيم واحدا من أشهر كتاب مصر.. كان عائدا من رحلة تعليم فى فرنسا وكان قد أصدر عدة مسرحيات توجته أميرا على المسرح العربى، وكان قد أصدر روايته الشهيرة «عودة الروح» التى وجد فيها عبدالناصر نبوءة الثورة .. واقترب كثيرا من الحكيم حتى أنه كان الإنسان الوحيد الذى يزور عبدالناصر دون ميعاد أو استئذان..

ــــ كان فى مصر ثلاث قامات إبداعية طه حسين والعقاد والحكيم وكان كل واحد منهم صاحب مدرسة .. كان العقاد مبهورا بزعيم ثورة ١٩ سعد زغلول وكان من رواد الوفد الكبار .. وكان طه حسين صاحب مشروع التعليم كالماء والهواء الذى ترجمته ثورة يوليو إلى برنامج مجانية التعليم .. أماً توفيق الحكيم فكان فنانا واكتفى بالمسرح ليعرض فيه مواقفه وأفكاره .. وكان يتصور أن مواقفه مع قضايا الحرية والعدالة هما طريق التغيير والإصلاح، وهنا كان عمق علاقته بالزعيم عبدالناصر الذى رأى فيه مشروع نهضة حقيقية..

ــــ لم يكن الحكيم عضوا فى تنظيم أو جماعة حتى ثورة ١٩ لم يكن مبهورا بزعيمها مثل العقاد، وكان يحب كواليس المسرح أكثر من كواليس السياسة ومن هنا اختار «الأهرام» بيتا يكتب فيه ويطلق أفكاره ويعبر عن مواقفه، وقد ساعد نمو هذه العلاقة أن الأستاذ هيكل جمع فى الأهرام صفوة كتاب مصر وعلى رأسهم توفيق الحكيم الفنان المبدع، خاصة أن هيكل لم يكن يوما من حواريى العقاد أو مريدى طه حسين..

ــــ كنت مشرفا على صفحات الأهرام الثقافية حين اقتربت من الحكيم، وكنا نلتقى كل يوم فى مكتبه بالدور السادس، وكان اللقاء الأسبوعى لكتاب الأهرام يوم الخميس وفيه نجيب محفوظ وزكى نجيب محمود ولويس عوض ويوسف إدريس وصلاح طاهر وبنت الشاطئ وإحسان عبدالقدوس وثروت أباظة وأنيس منصور وعبدالرحمن الشرقاوى ويوسف جوهر، وكنت أجلس على استحياء وسط هذه الكوكبة، وكثيرا ما كنت آخذ الحكيم فى سيارتى إلى بيته على نيل جاردن سيتى..

ــــ فى هذه الفترة أطلق الحكيم ثلاثة صواريخ ثقيلة.. كان العالم يعرف علاقة الحكيم مع عبدالناصر منذ قامت ثورة يوليو، ولكن الحكيم أطلق صاروخه الذى اهتزت به أركان الثقافة العربية وأصدر كتابه «عودة الوعى» الذى انتقد فيه بشدة ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر الذى أضاع على مصر وشعبها قضية الديمقراطية، وكان يستطيع أمام شعبيته الطاغية أن تكون الحرية أهم أعمدة حكمه .. وانطلقت صرخة الحكيم وقامت كتائب الناصريين واليسار والشيوعيين فى مصر والعالم العربى تهاجم الحكيم وتشكك فى مسرحه وإبداعاته، وكان الأستاذ هيكل من أكثر الكًتاب رفضا لموقف الحكيم وما جاء فى كتابه.. لم يهتم الحكيم بردود الأفعال الغاضبة ضد موقفه أو دفاعه عن قضايا الحرية والعدالة والتصدى لقضايا الفساد ..

ــــ وهدأت العواصف قليلا بعد عودة الوعى ولكن الحكيم سرعان ما أطلق قلمه مرة أخرى عندما أصدر بيانا ضد الرئيس أنور السادات حول حالة اللا سلم واللا حرب قبل حرب أكتوبر وكانت تأييدا لطلاب الجامعات الذين خرجوا فى مظاهرات تطالب بتحرير الأرض واسترداد الكرامة ووقّع بيان الحكيم ١٠٠ كاتب وقد كتبه بنفسه .. وعاد توفيق الحكيم يشعل النيران مرة أخرى ولكن مع السادات الذى استاء من البيان وقال كلمته الشهيرة «الحكيم خرف»..كان الحكيم صلبا قويا وهو يدافع عن حق الشباب فى أن يعبر عن رأيه وأن من حق الشعب أن يعلن رفضه حالة اللا سلم واللا حرب ..

ــــ لم يهدأ الحكيم وعاد بقلمه يحرك المياه الراكدة حين كتب سلسلة مقالات تحت عنوان «حديث مع الله» أجرى فيها حوارا مع الخالق سبحانه وتعالى وأمام ردود أفعال غاضبة اجتاحت الشارع المصرى واشتعلت المعارك تدافع عن حق كاتب فى حجم الحكيم أن يكتب ما يراه .. وفى حوار فى مجلس تحرير الأهرام سألت الحضور: هل يمكن أن يتجرأ كاتب ويجرى حوارا مع الرئيس السادات دون أن يلتقيه فكيف يكون الحديث مع الله؟!.. هدأت العاصفة ومر الوقت واهتزت أركان العالم أمام اقتحام جيش مصر قناة السويس وتدمير خط بارليف وكتب يومها توفيق الحكيم مقاله الشهير «عبرنا الهزيمة» وعاد شابا متألقا وهو فى الثمانين من عمره ..

ــــ كنت قد توقفت عن كتابة الشعر ست سنوات بعد نكسة ٦٧ ومع نصر أكتوبر كتبت ١٤ قصيدة جمعتها ودخلت مع الأستاذ إحسان عبدالقدوس على الحكيم وقلت له: هذه مجموعة قصائد كتبتها عن نصر أكتوبر وأرى أن تقدمنى فيها تأكيدا لفرحة المصريين بهذا النصر العظيم واتفقنا أن يكون التقديم فى رسالتين بين أكبر كتاب مصر وواحد من شبابها وكان ديوانى الأول «أوراق من حديقة أكتوبر» الذى حمل مقدمة الحكيم على غلاف صفحاته..

ــ كان توفيق الحكيم نموذجا للكاتب الذى يؤمن بفكره وقناعاته خاصة أن مطالبه فى الحياة كانت قليلة، وكان يرى فى الفن أعظم رسالة ولم يخلط بين علاقاته وقناعاته لأنه كان مؤمنا أن للكاتب رسالة وأن قضايا الحرية وكرامة الإنسان تسبق كل شىء حتى ولو كان يحب زعيما أو صاحب قرار لأن الحب شىء وقضايا المجتمع والناس شىء آخر .. إنه درس يجب أن يحرص عليه كل صاحب قلم وأن الموقف لا ينفصل عن حق الإنسان فى أن يكون حرا حتى لو أغضب البعض وهلل له البعض الآخر..

 

..ويبقى الشعر

وجْهٌ جَمِيلٌ ..

طافَ فِى عَيْنى قليلا ً .. واسْتـَدارْ

فأراهُ كالعُشْبِ المسَافِر ..

فِى جَبين ِ الأرْض يَزْهُو فِى اخْضِرَارْ

وتـَمرُّ أقـْدَامُ السنِين عَليهِ .. يَخـْبُو ..

ثـُمَّ يسْقـُط فِى اصْفرَارْ

كمْ عِشْتُ أجْرى خـَلـْفـَهُ

رَغمَ العَواصِف..والشَّواطِئ..والقِفـَارْ

هَلْ آنَ للحُلـْم المسَافِر أنْ يَكـُفَّ عَن ِالدَّوَارْ؟

يَا سِنـْدباد العَصْر .. ارجعْ

لمْ يَعُدْ فِى الحُبِّ شَىْءٌ غَيْرُ هَذا الانـْتـحَارْ

ارْجعَ .. فـَإنَّ الأرْض شَاخَتْ

والسّنونَ الخُضْرَ يَأكـُلـُهـا البَوَارْ

ارْجعْ .. فإنَّ شَوَاطئ الأحْلام ِ

أضْنـَاهَا صُرَاخُ المَوْج مِنْ عَفـَن ِ البـِحَارْ

هَلْ آنَ للقـَلـْبِ الذى عَشقَ الرَّحِيلَ

بأنْ يَنـَامَ دَقيقة ً .. مِثـْلَ الصِغـَارْ ؟

هلْ آنَ للوجْهِ الـَّذِى صَلـَبُوه فوقَ قِناعِهِ عُمْرًا

بأنْ يُلـْقِى الِقنـَاعَ الـُمسْتـَعَارْ؟

وَجْهُ جَمِيلٌ

طافَ فِى عَيْنى قليلا ً .. واسْتـَدَارْ

كانَ الوداعُ يُطلُّ مِنْ رَأسِى

وفِى العَيْنَين ِ سَاعَاتٌ تدُقُّ ..

وألفُ صَوْتٍ للقِطـَارْ

وَيْلى مِنَ الوجْه البَرىء ..

يغـُوصُ فى قلـْبى فيُؤلمُنى القرارْ

لمَ لا أسَافرُ

بَعْدَ أنْ ضاقتْ بى الشُّطآنُ..وابْتعَدَ المزارْ ؟!

يا أيُّها الوجه الذى أدْمَى فؤَادى

أىُّ شَىْءٍ فيكَ يُغْرينى بهَذا الانتظارْ ؟

مَا زالَ يُسْكرُنى شُعَاعُكَ ..

رَغـْمَ أنَّ الضَّوْءَ فى عَينىَّ نارْ

أجْرى فألمَحُ ألـْفَ ظلٍّ فِى خُطاىَ

فكيْفَ أنجُو الآنَ مِنْ هَذا الحِصَارْ ؟

لِمَ لا أسَافِرُ ؟

ألفُ أرْض ٍتحْتـَوينِى.. ألـْفُ مُتـَّكإٍ.. ودَارْ

أنا لا أرَىَ شَيْئـا أمَامِى

غَيْرَ أشْلاءٍ تـُطاردُهَا العَواصِفُ.. والغـُبَارْ

كمْ ظلَّ يَخْدَعُنِى بَريقُ الصُّبح فِى عَيْنـَيْكِ ..

كـُنـْتُ أبيعُ أيَّامِى ويَحمِلـُنى الدَّمَارُ.. إلى الدَّمَارْ

قـْلبى الذَّى عـَلـَّمتـُهُ يَومًا جُنونَ العِشْق ِ

عَلــَّمَنِى هُمُومَ الانـْكسَارْ

كانتْ هَزَائِمُهُ عَلى الأطـْلال ِ..

تـَحْكِى قِصَّة القـَلـْبِ الـَّذِى

عَشقَ الرَّحيلَ مَعَ النـَّهَارْ

ورَأيْتـُهُ نـَجْمًا طريدًا

فِى سَمَاءِ الكـَوْن ِ يَبْحَثُ عَنْ مَدارْ

يَا سِنـْدبَادَ العَصْر

عهْدُ الحُبِّ ولــّى..

لنْ تـَرَى فِى القـَفـْر لؤلـُؤة ..

ولنْ تـَجـِدَ المحَارْ

وَجْهٌ جَمِيلٌ..

طافَ فِى عَيْنِى قليلاً.. واسْتـَدَارْ

وَمَضَيْتُ أجْرى خـَلـْفـُه..

فوجَدْتُ وَجْهـِى.. فِى الجـِدَارْ

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

توفيق الحكيم من أوراق العمر توفيق الحكيم من أوراق العمر



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon