بقلم - فاروق جويدة
تابعت فى الأسابيع الأخيرة صحوة غير مسبوقة فى النشاط الاستثمارى للحكومة، وشعرت بأن هناك برنامجا حقيقيا لإعادة بناء الاقتصاد المصرى على أسس وقواعد مدروسة، وربما تأخرت هذه الإجراءات أمام تحديات وأهداف أخرى أخذت بعض الوقت.. إن برنامج الحكومة فى مجال الاستثمارات يضع الآن مجموعة من الأهداف فى مقدمتها الاستثمارات الخارجية، وأمام أسواق كثيرة أغلقت أبوابها تبقى أمام مصر فرص كبيرة لفتح الأبواب والتخلص من سراديب البيروقراطية العتيقة..
ــــ إن ما تشهده مصر الآن من حركة جامحة نحو تطوير المسار فرصة تاريخية تستعيد بها الدور والمكانة، رغم أننا قد نختلف فى تحديد الهدف والمسار فإن مصلحة الوطن يجب أن تسبق كل شيء ، إذا كان تشجيع رأس المال والاستثمار الأجنبى ضرورة فيجب ألا ننسى أن الاستثمار الداخلى هو أساس التنمية والبناء الحقيقى، وهنا ينبغى تشجيع القطاع الخاص المصرى إلى ابعد مدي.. إننى أدرك قيمة المال فى الحياة والرخاء وتلبية مطالب الشعوب واحتياجاتها، ولكننى أضع الجهد البشرى فوق كل الاختيارات الأخرى وأضع البشر فى أول القائمة وأراه أهم عناصر البناء لأن الإنسان هو الذى يستطيع أن ينتج ويبدع وهو صانع المال الحقيقي..
ــــ من هنا تأتى أهمية استثمار البشر، وفى مصر كان الإنسان هو أهم ثرواتها عبر تاريخها الطويل هو الذى زرع شواطئ النيل وعلم الدنيا الزراعة وهو الذى شيد الجيوش، وعلم الدنيا كيف تحمى الشعوب أوطانها وهو الذى أبدع الفنون وأقام الأهرامات وصنع الحضارة وكتب التاريخ ، إن هذا الإنسان المصرى المبدع يحتاج الآن إلى وقفة، من هنا فإن الملايين أيا كان مصدرها لا فائدة منها إذا لم نسترد هذا الإنسان خاصة أن ما نراه ونشعر به، إن هناك تحولات خطيرة حدثت فى مكونات الشخصية المصرية وفقدت الكثير من مقومات تفوقها وتفردها ودورها، وأمامنا نماذج كثيرة وشواهد تؤكد هذا الواقع..
> أولاً : لا أتصور أن يغيب عن أذهاننا ملايين الشباب الذين ينتشرون فى المحروسة بلا عمل وتأكل البطالة أعمارهم عاما بعد عام، ونكتشف أن أكثر من٣٠ مليون إنسان فى مصر لا يقرأون ولا يكتبون وأصبحت الأمية عارا يطاردنا فى كل مكان.. إن بناء الأبراج لا يمكن أن تغنى عن الذين يفتقدون الوعى والفكر والثقافة وأنا لا أتصور أن تكون مصر أم الحضارات والإبداع غير قادرة على مواجهة أمية شعبها منذ أكثر من مائة عام صدر دستور١٩٢٣ فى عهد الملك فؤاد وفيه مادة تلزم الحكومة القضاء على ظاهرة الأمية فى خمس سنوات، وتغيرت عشرات الحكومات وقامت الثورات والجهل يعبث فى عقول أجيالنا جيلا بعد جيل.. إن القضاء على الأمية وتعليم الملايين أهم من شيبسى وكنتاكى والتزحلق على الجليد..
> ثانياً : إن الواقع القبلى الذى ينتشر الآن بين المنتجعات القبلية وهذا التغير الاجتماعى الرهيب الذى حول المجتمع إلى جزر ومناطق نفوذ كان سببا فى عودة الطبقية المتوحشة التى قسمت المجتمع الى أصحاب المال والنفوذ وشركاء الفقر وقلة الحيلة ولم يكن غريبا أن تظهر صور واقع اجتماعى جديد بين من ملكوا المال والنفوذ ومن جلسوا على الأرصفة ينتظرون فتات الموائد ومواكب المتصدقين.. إن مصر الآن حائرة بين أصحاب المال والسلطان وبين فئات لا تعمل أمام ضيق الفرص وغياب العدالة..
> ثالثاً : أين ما كان يسمى تكافؤ الفرص، وكيف أصبحت الأماكن والمناصب والقدرات تورث فى مجتمع بخل على أبنائه بشيء يسمى العدالة؟!.. إن توزيع الثروة فى مصر لم يعد الأرض والمال فقط ولكن المناصب تورث والفرص تعطى لمن لا يستحق، أما التميز والتفرد والمواهب فلا مكان لها فى السباق.
> رابعاً : إن اختلال التركيبة الاجتماعية فى مصر كانت لها توابع كثيرة لأن الفن الابن الشرعى لانحدار الذوق العام وصعود نماذج بشرية غريبة تماما على ثوابت المجتمع المصرى بثوابته العريقة، وللأسف الشديد فإن أزمة انحدار الذوق العام تركت آثارها على سلوكيات الشارع ولغة الحوار ومستوى الثقافة العامة ووجدنا نماذج بشرية تتسرب إلى حياتنا وتقتحم أجيالنا الجديدة وتدخل بها فى متاهات تتعارض تماما مع الشخصية المصرية وتاريخها الطويل فى القدوة والقيمة والترفع..
> خامساً : أمام هذه الشواهد الغريبة علينا اختلت موازين الأشياء فى كل شيء ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد افتقد القدوة والمصداقية والانتماء.
ـــ من هنا أعود من حيث بدأت، إن البناء الحقيقى هو بناء الإنسان، وإن المال رغم أهميته هو أحد الأركان، وإذا كنا الآن نخوض المعارك لجمع الأموال استثمارا وقروضا فإن ذلك كله لن يحقق الرخاء المطلوب وعلينا أن نراجع أنفسنا ونعيد الإنسان إلى تاجه القديم منتجا ومبدعا وأمينا وصاحب قضية، ولا يعقل أن نترك هذا الإنسان يصارع وحده الأمية والفقر وهبوط الذوق العام والفن والسلوكيات الغريبة..
ـــ إن المثل الصينى الذى يقول لا تعطينا سمكة ولكن علمنى كيف أصطاد، وهذا ينطبق علينا الآن لأن جمع الأموال بأى وسيلة يصل بنا إلى الرخاء ، ولكن ملايين الشباب الذين لا يعملون يمثلون ثرواتنا الحقيقية، وغياب العدالة وتكافؤ الفرص يحرم القدرات والمواهب من حقها فى العمل والإبداع ، ولا اعتقد أن بقاء الملايين من ضحايا الأمية يليق ببلد عريق مثل مصر، وأن هناك دولا تعانى الآن شيخوخة شعبها فى ألمانيا وايطاليا واليابان، وشباب مصر لابد أن يتصدر المشهد ويحصل على حقه فى حياة كريمة توفر العدالة للجميع.. الإنسان المصرى هو ثروتنا الحقيقية ومهما تكن النجاحات فى مجالات الحياة المختلفة فسوف يبقى الإنسان سيد هذا الكون وأعظم ما فيه إبداعا وإيمانا وقيمة..