من أسوأ الأشياء ألا يعرف الإنسان قدر وطنه، لأن الأوطان ليست قطعة أرض أو سكنا يؤوينا ولكنها دماء شهداء وذكريات عمر وحكايات أكبر من النسيان .. وحين تهون الأوطان يهون كل شيء ، ومن هانت عليه نفسه كانت على الناس أهون .. ولأن التاريخ حكم عدل ولأن الزمن لا ينصف الكسالى والغافلين، تبقى قيمة الأوطان فى بشر يدركون قيمتها ويعرفون قدرها ..
> وللأوطان فصول ومواسم تشبه عمر الإنسان ، أحيانا يزورها الربيع، وقد يتثاءب الخريف على ضفاف أيامها .. وعلى امتداد الزمن فإن الإنسان هو الذى منح الأوطان قدرا وهو أيضا الذى أهدر قيمتها وتركها تتوارى خلف سحابات العجز والنسيان .. وتاريخ الأوطان هو الذى يحمل الشواهد وهو الذى يدين وينصف، لأن أقدار الأوطان تحددها مسيرة البشر، هم الذين يكتبون الصفحات إما إنجازا وإما عجزا.. والأوطان مثل الإنسان يبدو قويا عفيا وقد يشيخ ويصبح عبئا على نفسه وعلى الحياة، والأوطان يصنعها البشر وأيضا يطيح بها البشر ..
> وحين أنظر اليوم لخريطة أوطاننا أرى كثيرا منها شاخت وتبلدت وأصابتها أمراض العجز والتراخى والاستسلام ووقفت شعوبها حائرة فى مسيرة الزمن ، فقد فرطت فى أشياء كثيرة حين استسلمت لمواكب العجز وأصبحت عبئا ثقيلا على نفسها وعلى الناس، والأوطان تشيخ حين تفقد هويتها دينا ولغة وتاريخا ومكانة، والإنسان هو الملاذ الأخير لحماية الأوطان وإذا تراخى أو استسلم أصبح عبئا ثقيلا وفقد قدرته على أن يكون كائنا حيا قويا قادرا.. ومن أسوأ الأشياء فى تاريخ الأوطان أن تنجب أجيالا مهجنة لا تعرف أصولها ولا تذكر تاريخها وتصبح عبئا على الآخرين ..
> والأوطان إذا شاخت وترهلت تأخذ جانبا فى الحياة وتصبح كما مهملا ويصبح الإنسان كالقطيع لا فكر ولا إحساس ولا كرامة وتستباح كل الأشياء فيها وتصبح مزارا لكل الأمراض ويفقد الإنسان فيها مقومات المناعة، وتحوم حوله أنواع غريبة من الطيور المتوحشة تدمر كل ما فيه..
> وللأوطان كرامة تستمدها من قدرتها على أن تكون ندا للآخرين، وللأسف الشديد فإن الأوطان تمرض وتعانى وتشيخ وقد تموت، والعجز والتخاذل والتراخى هى أنواع الأمراض التى تصيب الأوطان وتصيب البشر، والعجز مرض خطير يفقد الأوطان قيمتها ودورها ويصبح التراخى سلوكا عاديا، وتفقد الأوطان روحها حين تتخاذل أمام ضرورات الحياة..
> وفى التاريخ قصص كثيرة عن أوطان استسلمت وهانت وترهلت وأخذت مكانها على شواطئ النسيان .. والأوطان يمكن أن تكون مقابر للأحياء وقد تكون عبئا على الحياة كلها، حين تصبح كالقطيع يجرى خلف المقامرين والمغامرين وباعة الأوهام ومحترفى التضليل .. والأوطان تبنيها بعض العقول التى تضيء بها الحياة وهى أعداد قليلة وسط حشود الجهل والتخلف ، وحين يصير الجهل فى مقدمة الصفوف تظلم الأوطان وتتخبط فى متاهات العجز والتراخى .. والأمم العظيمة يصنعها رجال عظماء ..
> وفى أحيان كثيرة تسقط الأوطان من تاريخ الزمن وتختفى ويكون الإنسان هو السبب وهو الضحية، وهناك أوطان تحدت الزمن وأوطان أخرى عاشت وماتت واختفت صورتها أرضا وبشرا، والقضية فى الأساس أن الإنسان حين يتخاذل ويصيبه العجز ويشيخ قبل الأوان تدخل الأوطان ساحة الضعف والترهل ولا تعرف من أفسد الآخر: هل أفسد الإنسان الأوطان آم أفسدت الأوطان الإنسان أم أنها جرائم مشتركة بين إنسان أصابه العجز وأوطان شاخت واستسلمت وخسرت الاثنين معا الأوطان والإنسان..
> فى أحيان كثيرة أسأل نفسى: لماذا تغيرت أوطاننا؟ ومن غيرها؟! وأين هى من مسيرة الأحداث وحكايات الزمن؟ ولا أجد الإجابة ، ولكن تبدو أمامى الصورة حزينة فكل شيء تغير ولم تعد الأوطان فى مكانتها، لقد تراجعت دورا وتاريخا وأمجادا ، وأصبحت تعيش خارج الزمن أحداثا ورموزا ودورا ، وحاصرتها من كل اتجاه عصابات الشر تمارس أسوأ أنواع الطغيان قهرا وجوعا وخوفا ومهانة ، وتنظر إلى الماضى وتطل من خلف السحابات السوداء أمجاد وانتصارات وكبرياء ، بينما المستقبل ينزوى بعيدا، حيث لا حلم ولا مكانة ، وتسأل أين من كانوا يوما أسياد هذا الكون؟ وكيف انسحبوا وتغيرت بهم الأحوال ؟ وتكتشف أن الإنسان حين تعثرت خطاه وفقد البصر والبصيرة أفقد الأوطان نخوتها وشموخها وقدرتها على مواجهة المحن والأزمات وشاخ الاثنان معا الوطن والإنسان .. وهذه معادلة كونية، لأن الوطن ليس قطعة أرض والإنسان ليس شبحا يسكنها، لأن فى الأرض دماء وأسرارا وحكايا صاغها الإنسان بالأحلام والإنجاز والإصرار وحين غابت هذه الأشياء تكاسل الزمن وتراخى الإنسان وحاصر العجز الأوطان .. وهذا حالنا الآن..
> حين أجلس الآن إلى نفسى وأشاهد الأحداث حولها أتعجب كثيرا من حالات الشماتة التى أطلقها البعض سموما فى الأبدان، أن يسخر البعض من شهداء غزة الذين ماتوا جوعا وهم يدافعون عن وطن ويموتون على أرضهم وليس فى الملاهى والحانات..
> أتعجب أن تصبح الأوطان مجرد مناصب يتزاحم حولها المغامرون وعشاق السلطة ويفرطون فى كل شيء فيها أرضا ومكانا وتاريخاً ، أن تجتمع عصابة اللئام حول ضحية بريئة، بينما الأطفال يموتون جوعا والنساء ينادين: هل من مغيث؟! ولا شيء غير الصدى ، أن تصل الأحوال بالأوطان إلى هذه الدرجة من العجز والهوان والاستكانة ، فلابد أن يكون هناك شئ فى الكون غّيَّّرَ الطباع وأهدر القيمة وأصبح الإنسان كائنا غير ما عرفناه.. حتى تشمت الأوطان فى شهدائها وتبيع ترابها وتجلس على منصة التاريخ عاجزة لا تملك من أمرها شيئا .
> إن أصعب الأشياء أن تهون الأوطان حين يتبرأ منها الإنسان، رغم أن العجز الحقيقى ليس فى وطن تخلى ولكن فى إنسان فرط واستسلم وباع..