فاروق جويدة
المصريون مؤمنون بالفطرة وكان الدين ومازال عنصرا أساسيا في تكوين الشخصية المصرية وقبل أن تهبط الأديان علي البشر انتشرت نظريات التوحيد في مصر القديمة
ثم عبرت الرسالات السماوية علي الأرض المصرية في عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام.. وفي قصص الأنبياء كانت مصر عاملا مشتركا بين العقائد السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام وفي مصر تجمعت شواهد كثيرة لهذه الأديان ابتداء بالشخوص وانتهاء بالآثار..
ولهذا فإن تقسيم المصريين إلي مؤمنين وغير مؤمنين أو إلي مؤمنين وكفار كما يحلو للبعض تقسيم باطل وغريب لأن حياتهم ارتبطت دائما بفكرة التوحيد في النيل حين يفيض والزرع حين ينمو والحصاد حين يجيء كان ارتباط المصريين طوال تاريخهم بالخالق سبحانه وتعالي تأكيدا علي أننا أمام شعب مؤمن متدين يحترم الأديان كل الأديان ويؤمن بالرسل والأنبياء عليهم السلام ولقد فشلت جميع المحاولات التي سعت إلي نشر الخلافات والصراعات الدينية سواء تلك التي شهدتها مصر في عهود الاستعمار والاحتلال أو تلك التي حاولتها الأنظمة القمعية التي فرقت بين أبناء الوطن الواحد تحت دعاوي كثيرة من بينها الدين..
من هنا كان الدين دائما أبعد ما يكون عن السياسة لأن للأديان قدسيتها ورهبتها في ضمير المصريين وقليلا ما اختلط الدين مع السياسة في بعض المراحل التاريخية رغم أن السياسة لم تكن يوما هدفا للإنسان المصري أمام أساليب الاستبداد والقمع والترصد.. ومنذ قامت ثورة يناير ونجحت في إسقاط النظام السابق ظهر الدين كعامل سياسي مؤثر في الشارع المصري وتعددت التيارات التي حملت الشعارات الدينية وكان في صدارتها ثلاثة اتجاهات رئيسية هم الأخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية.. كان تاريخ الأخوان صفحات معروفة للمصريين كتيار ديني وفكري تأسس منذ عشرات السنين وتعرض لمطاردات كثيرة وكانت الجماعة الإسلامية ذات حضور في الشارع المصري خاصة مع عمليات العنف التي اجتاحت مصر في فترة الثمانينيات والتسعينيات الا أن مفاجأة الثورة كانت ظهور السلفيين بهذه القوة وهذه التعددية في الثوابت والأراء وهذا المظهر الخارجي الذي اختلف تماما عن صورة المصريين التاريخية..
في نشوة نجاح الثورة وإسقاط النظام رحبت التيارات السياسية بإختلاف توجهاتها بالتيارات الإسلامية وساندتها بقوة وتم الإعلان عن إنشاء عدد كبير من الأحزاب الدينية كان في مقدمتها حزب الحرية والعدالة وحزب النور وعدد من الأحزاب الدينية الأخري.. كان ينبغي مع إعلان ظهور هذه الأحزاب أن تمارس نشاطها السياسي في ظل مفاهيم سياسية تحترم حقوق الإنسان وتؤمن بالمعارضة والرأي الآخر وتعترف بالديمقراطية كأسلوب حكم رغم أن التيارات الإسلامية كانت دائما تعلن رفضها للديمقراطية الغربية بمفهومها الحديث.. إلا ان الأحزاب السياسية الإسلامية أعلنت قبولها لهذا الطرح مؤكدة حق الناخب في صناديق الانتخاب وهي المعيار الحقيقي للديمقراطية..
لم تستمر طويلا هذه القناعات عند التيارات الإسلامية وسرعان ما أعلنت عن وجهها الحقيقي أنها لا تقبل الحوار السياسي.. وتحاول دائما أن تصبغ كل شيء بالدين بل أنها تمادت في الفتاوي والأحكام التي تكفر الآخرين وتعتبر أنهم ضد الأديان.. وهنا انتقلت مفاهيم وثوابت هذه الأحزاب من الفكر السياسي الذي روجت له مع ظهورها إلي فكر ديني متجمد يرفض الحوار ولا يؤمن بالمعارضة أو بالرأي الآخر وهنا كان الانقسام والصدام بين القوي الإسلامية والقوي السياسية الأخري.. وقد حاولت التيارات الدينية السيطرة الكاملة علي حركة المجتمع وفرض هيمنتها علي كل المواقع تحت دعاوي التصويت وصندوق الانتخابات..
وأمام نسبة من الأمية تقترب من20 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون وأمام عشرات العشوائيات التي تجمع الملايين من البشر وأمام نسبة من الفقر تجاوزت40% من أبناء المجتمع كان من السهل أن تجتاح التيارات الدينية الساحة السياسية وتحاول فرض الوصاية الكاملة علي الواقع السياسي المصري لأنها لا تطرح فكرا سياسيا يمكن ان نختلف عليه ولكنها تطرح ثوابت دينية لا يجوز الخروج عليها..
هنا ظهرت انقسامات الشارع المصري أمام الملايين الذين يقدرون دور الدين وثوابته ودور السياسة ومتغيراتها مع الملايين من الأخوة الأقباط.. وملايين أخري تري أن الشارع المصري لا ينقصه التدين ولكن تنقصه إدارة حكيمة تواجه المشاكل وتحل الأزمات.. وتصدرت مجموعة من المشايخ الساحة السياسية بأساليب فجه في الهجوم والتشكيك والفتاوي حتي وصل بنا الحال إلي الدعوة لقتل المعارضين وانتهاك الحريات تحت دعاوي دينية افتقدت الحكمة والصواب.. وهنا أفصحت الأحزاب الدينية عن وجه لا يتناسب مع مباديء ثورة أطاحت بنظام سياسي مستبد لتجد نفسها أمام نظم دينية أكثر قمعا واستبدادا.. وكان السبب في ذلك كله هو هذا الخلط المريب بين دور الأحزاب السياسية وتوجهاتها الدينية..
اختلطت الأوراق وبدا وكأن مصر قد اسلمت بعد كفرها وأن خيول ابن العاص قد دخلت المحروسة وأن صوت بلال يصدح لأول مرة في ربوعها رغم أن المصريين أكثر شعوب الأرض صلاة وصوما وتدينا..
< لم يكن غريبا وسط هذا الجو المشحون أن تصدر محكمة القضاء الإدراي بالاسكندرية حكما تاريخيا في الأسبوع الماضي برئاسة المستشار د.محمد عبد الوهاب خفاجي وعضوية المستشارين عوض الملهطاني وخالد جابر وأحمد درويش وعبد الوهاب السيد بأنه لا يجوز للائمة العبث بمنابر المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية وأن مسئولية الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف هي التصدي لوقف فوضي الفتاوي وقصرها علي دار الإفتاء خاصة المسائل الخلافية.. وقال نص الحكم لقد عاش المسلمون في ظلم وظلام بسبب خلط الدين بالسياسة وأن مصر أحوج ما تكون في هذه الفترة لتوحيد الهدف ونبذ الفرقة وقد حظرت المحكمة في حكمها إصدار الفتاوي من غير دار الإفتاء لأن الدين ليس سلعة تباع وتشتري علي القنوات الفضائية لكنه منهج حياة لصالح الوطن..
< في جانب آخر تلقيت رسالة من مسئول سابق في دولة الإمارات العربية هو السيد علي محمد الشرفا الحمادي مدير ديوان الرئاسة في دولة الإمارات العربية في عهد الشيخ زايد رحمة الله عليه يقول فيها إن مصر تمر في هذه الأيام بمنعطف خطير اهتزت فيه قيم الإسلام النبيلة وتعالت صيحات الاغتيال باسم الإسلام دين الرحمة والعدل والسلام لقد طفي علي السطح أناس نصبوا أنفسهم أوصياء علي الدين ولهذا لابد من تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة بأن يتم إنشاء هيئة عليا للدعوة والإرشاد يتم تشكيلها من شيخ الأزهر وكبار العلماء ووزير الأوقاف وفضيلة المفتي تكون مهمتها مواجهة المفاهيم الخاطئة التي تتناقض مع قيم القرآن وتتعارض مع سيرة رسولنا من خلال حملة مكثفة لتبصير الناس بديننا الحنيف من أجل سلام المجتمع وسلامة الفرد وحماية حريته وحياته..
< لم يكن أحد يتصور في يوم من الأيام أن يصل حال المصريين إلي هذه الدرجة من الانقسامات التي تجاوزت الشارع وقواه السياسية والدينية لتدخل وتقتحم الأسرة المصرية.. أن الخلط بين الدين والسياسة وتكفير بعض فئات المجتمع والدعوة إلي تصفية المعارضين جسديا من خلال فتاوي مجنونة كل هذه الأشياء والظواهر غريبة علي المجتمع المصري أنها لم تكن سببا في إزعاج المصريين فقط ولكنها أزعجت أشقاء لنا في العالم العربي يرون في مصر القدوة والنموذج.. وكان أكبر تأكيد علي هذا التداخل بين قدسية الدين واطماع السياسة وصراعاتها ما حدث من خلافات بين الإخوان المسلمين والسلفيين في الأيام الأخيرة.. كانت تجمعهم الدعوة لله ثم فرقتهم صراعات السياسة والغنيمة والوصاية.. لقد نسيت الأحزاب والقوي الدينية دورها في الدعوة إلي الله بالدين الصحيح والسلوك القويم والأخلاق الحميدة وبدأ صراع المصالح السياسية تحت راية الدين وهنا كان التنابذ بالألقاب والشتائم والفتاوي المغرضة ومحاولات استخدام الدين كوسيلة ضغط علي البسطاء والفقراء والأميين.. كان ينبغي ان يكون الخلاف والجدل حول مواجهة قضايا المجتمع ومشاكل الناس وتوفير مناخ سياسي سليم وصحي وليس جني الغنائم وتصفية الحسابات ولم يعد الأمر مقصورا علي الخلافات السياسية بين التيارات الدينية والقوي الليبرالية ولكن الصراع الأن بين القوي الإسلامية نفسها وهذا يؤكد ان الخلط بين الدين والسياسة قد وصل بنا إلي نتائج غير محمودة وان الصراع لم يعد صراعا سياسيا بل تحول إلي صراع ديني وهو اسوأ انواع الصراعات لأنه يفتح الأبواب لمواجهات اخري في مقدمتها الحروب الأهلية ولنا في لبنان والجزائر دروسا يمكن ان نستفيد منها
لقد شهدت الشهور الماضية تغييرا جذريا في الشخصية المصرية حين انقسم المجتمع إلي طوائف دينية وسياسية بعد الثورة التي وحدتنا في يوم من الأيام ان المطلوب الأن من الحكماء والعقلاء في هذا الوطن ان نسعي لكي نعيد للشخصية المصرية تراثها القديم في الدين الوسطي والتسامح والمحبة والحوار لأن ما يحدث الأن يهدد ثوابت مصر الحضارية والثقافية والدينية.
علي التيارات الدينية ان تلعب السياسة بشروطها وثوابتها وعلي التيارات السياسية ان تقبل الصراع تحت راية الفكر وليس دعوات التطرف باسم الدين لأن الدين أكبر كثيرا من صراعات السياسة والساسة ويجب ان يبقي في ضمير الناس موطنا للسماحة والتواصل والإيمان الصحيح.
..ويبقي الشعر
ما زلت أركض في حمي كلماتـي
الشعر تاجي والمدي ملكاتـــــي
أهفو إلي الزمـن الجميـــل يهزنـــي
صخب الجياد وفرحة الرايات
مازلت كالقديـــس أنشـــر دعوتـــي
وأبشـــر الدنيــــــا بصبـــح آت
مازلت كالطفـل الصغيــــر إذا بـــدا
طيف الحنـان يذوب في لحظات
مازلت أعشق رغـــم أن هزائمــــي
في العشق كانت دائما مأساتـــي
وغزوت آفاق الجمــــال ولم يـــزل
الشعر عندي أجمل الغـــــزوات
واخترت يوما أن أحلـق في المـــدي
ويحوم غيري في دجي الظلمات
كم زارني شبح مخيـف صــــــامت
كم دار في رأسي وحاصر ذاتي
وأظل أجــري ثم أهــــرب خائفـــــا
وأراه خلفي زائغ النـظــــــــرات
قد عشت أخشي كل ضيـف قـــــادم
وأخاف من سفه الزمان الـعــاتي
وأخاف أيـام الخريـــــف إذا غــــدت
طيفـا يطاردنـي علــــي المـــرآة
مازلت رغم العمر أشعــــر أننـــــي
كالطفــل حين تزورنــي هفواتي
عنـدي يقيــــن أن رحمــة خالقـــــي
ستكون أكبر من ذنوب حياتـــي
سافرت في كل البـــــــلاد ولـم أجــد
قلبـا يلملم حيرتــــي وشتــاتـــي
كم لاح وجهـــــك في المنام وزارني
وأضاء كالقنديل فــي شرفاتـــي
وأمامــــي الذكري وعطرك والمـني
وجوانح صارت بــــلا نبضــات
ما أقصــــر الزمن الجميل سحابــــة
عبرت خريف العمر كالنـسمـات
وتناثرت عطـــرا علـي أيــــامنـــــا
وتكسرت كالضوء فـي لحظــات
ما أصعب الدنيـــا رحيـــلا دائمــــا
سئمت خطاه عقارب الساعـــات
آمنت في عينيـــك أنــك موطنــــــي
وقرأت اسمك عنــد كل صــــلاة
كانت مرايا العمر تجـــري خلفنــــا
وتدور ترسم في المدي خطواتي
شاهدت في دنــــس البلاط معابـــدا
تتلي بها الآيات فـــي الحانـــات
ورأيت نفســي في الهواء معلقــــــا
الأرض تلقينــي إلـي السمــوات
ورأيـــت أقدار الشعـــــوب كلعبـــة
يلهو بهــا الكهــان في الـبـارات
ورأيـت أصنــــاما تغيـر جلـــدهــــا
في اليـوم آلافـــا مـــن المـــرات
ورأيـت مـن يمشــي علـــي أحلامـه
وكأنـهــا جــثث مـــن الأمـــوات
ورأيت من باعوا ومن هجروا ومن
صلبـوا جنين الحب في الطـرقات
آمـــنت بالإنـســــان عمــــري كلـــه
ورسمتــه تاجــا علـي أبيـاتــــي
هو سيد الدنـيـــا وفجــــر زمانهــــــا
سر الإلـه وأقــدس الغــــايــــات
هو إن سما يغدو كنجم مبــهر
وإذا هوي ينحط كالحشـــــرات
هل يستوي يوم بكيت لفقـــــــــده
وعذاب يوم جاء بالحسرات ؟!
هل يستـوي صبح أضاء طريقنـا
وظلام ليـل مر باللعنـــــــات ؟!
هل يستوي نهر بخيل جاحـــــــــد
وعطاء نهر فاض بالخيرات ؟!
أيقنت أن الشـعر شاطئ رحـلتــــي
وبأنه عند الهلاك نجاتــــــــــي
فزهدت في ذهب المعز وسيفــــــه
وكرهت بطش المستبد الـعاتـــي
وكرهت في ذهب المعز ضـــــلاله
وخشيت من سيف المعــز مماتي
ورفضت أن أحيا خيالا صــــــامتـا
أو صفحة تطوي مع الصفحـــــات
واخترت من صخب المزاد قصائدي
ورفضت سوق البيع والصفقـات
قد لا يكون الشعر حصنـــــا آمنـــــا
لكنه مجد.. بلا شـبهــــــــــــات
والآن أشعر أن آخر رحـلتــــــــــــي
ستكون في شعري وفي صرخاتي
تحت التراب ستختفي ألقابنــــــــــــا
لا شئ يبــقي غير طيف رفـــــات
تتشابك الأيدي.. وتنسحب الــــروي
ويتوه ضوء الفجر في الظلـمـــات
وتري الوجوه علي التـراب كأنــــــها
وشم يصافح كل وشـــــــــــــم آت
ماذا سيبقي من بريق عيوننـــــــــــا ؟
لا شئ غير الصمت والعبــــــرات
ماذا سيبقي من جواد جـــــــــــــامح
غير البكاء المر.. والضحكـــــات؟
أنا زاهد في كل شيء بعدمــــــــــــا..
اخترت شعري واحتميت بذاتـــــي
زينت أيامي بغنوة عاشــــــــــق
وأضعت في عشـق الجمال حياتي
وحلمت يوما أن أراك مدينتـــي
فوق السحاب عزيزة الرايــــــــات
ورسمت أسراب الجمال كأنـها
بين القلوب مواكب الصــــــــلوات
قد قلت ما عندي ويكفي أنني
واجهت عصر الزيف بالكلمــــات
نقلاً عن جريدة "الأهرام"