فاروق جويدة
أظهرت الثورة المصرية أجمل وأعظم الأشياء فينا طوال اسبوعين فقط..
وبعدها انقلب السحر علي الساحر وتكشفت أمامنا أمراض كثيرة كان أخطرها ما حدث للعقل المصري في السنوات العجاف بحيث وجدنا أنفسنا الآن نعاني قصورا رهيبا في القدرات والإمكانات أمام مجتمع لم يعد قادرا أن يري تحت قدميه.. كنا دائما ننبه إلي خطورة المحاولات التي استهدفت عقل مصر ابتداء بنظم تعليمية متخلفة وثقافة سطحت كل شيء وإعلام شوه الشخصية المصرية في كل ثوابتها ودخل بها متاهات واسعة من عشوائية الفكر وفقر الرؤي.. وفي تقديري أن العامين الأخيرين ومنذ قيام الثورة كشفت لنا أخطر الأمراض المستعصية التي تعاني منها مصر وهي الأمية.. سنوات طويلة ونحن نتناول هذه الظاهرة التي تتنافي مع أبسط حقوق الإنسان في هذا العصر خاصة أن دولا كثيرة احتفلت بوفاة أخر إنسان أمي فيها منذ عشرات السنين.. والغريب أن الأمية الأزمة والقضية قد كشفت عن أمراض أخري في المجتمع المصري تبدأ بالسلوك والفوضي وتنتهي عند واقع سياسي متخلف يرفض حتي الآن أن يتعامل مع العصر بقدراته وأساليبه وقد ألقي ذلك أعباء كثيرة علي الواقع السياسي المصري خاصة حين نتحدث عن قضايا الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية.. وهنا ظهرت أمامنا أشباح الأمية تنكر كل هذه الرؤي وترفض كل هذه الأشياء.. ولهذا لم يكن غريبا أن يقف أحد المسئولين الكبار يوما ويقول إن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية ولعله كان يشير بطريقة أو أخري إلي قضية الأمية حيث الجهل وسوء الاختيار..
وقي تقديري وبعد كل ما حدث في الشارع المصري من تجاوزات وما شهده من أخطاء خاصة مواكب الفوضي التي غيرت تماما صورة المصريين أمام العالم كل هذا يعود إلي نقطة البداية وهي أن بيننا ما يقرب من30 مليون مصري لا يقرأون ولا يكتبون.. هذه أكبر جريمة ارتكبتها كل النظم السابقة في حق الإنسان المصري حينما تركته سابحا في متاهات الجهل حتي لا يعرف لنفسه حقوقا أو رأيا أو قضية.. وقد ترتبت أشياء خطيرة علي الأمية في مصر ابتداء بطريقة التفكير والسلبية واللامبالاة وانتهاء بالخزعبلات الفكرية والدينية التي اجتاحت عقول نصف المجتمع المصري ووصلت به إلي حالة من الانهيار الفكري لم تشهدها مصر إلا في عصور التراجع والانحطاط..
لقد طفت علي السطح بضراوة أزمة العقل المصري بعد الثورة وكان في مقدمة هذه الظاهرة الأمية حيث تناثرت الأرقام هنا وهناك عن عدد الأميين في مصر وهي من اعلي نسب الأمية في العالم.. هذا يذكرنا بمحاولات كثيرة لمواجهة هذا المرض الخطير بدأت حين جاء نص صريح ملزم في دستور1923 بأن تقضي الحكومة علي الأمية في فترة زمنية محددة وللاسف الشديد ان الدستور لم ينفذ بل ان مواكب الأمية زادت اتساعا في كل ارجاء المحروسة.. وفي دستورنا الأخير نص جديد يلزم الحكومة بالقضاء علي الأمية في عشر سنوات..
ولاشك ان الآثار المترتبة علي ظاهرة الأمية في مصر اكبر من مجرد تعليم القراءة والكتابة لأنها تحرم المجتمع من جزء كبير من قدراته العقلية والفكرية والعملية وتضيف له اعباء كثيرة في تخلف الفكر وتراجع السلوك.. نحن امام امراض كثيرة هي من توابع الأمية من بينها مستوي الأداء والإنتاج والكفاءة وقبل هذا كله طريقة التفكير والتعامل مع روح عصر لامكان فيه للجهل والخزعبلات والسؤال الذي يطرح نفسه الأن كيف نواجه هذه القضية وماهي إمكانات البدء في مشروع حضاري وتعليمي جديد للقضاء علي الأمية.. هناك تجارب سابقة لعلاج هذا المرض الخطير لم تحقق نتائج ملموسة بإستثناء تجربة وحيدة ناجحة في المؤسسة العسكرية واري ضرورة الإستفادة منها إذا كنا بالفعل جادين في محاربة الأمية
لا يكفي ان يطالب الدستور الحكومة بمواجهة الأمية ولا يكفي ان نتحدث كل يوم عن المشكلة وان يتناولها الإعلام كأحد الأمراض الإجتماعية الخطيرة ولكن يجب ان يشعر المجتمع كله بأن الأمية عار علينا جميعا ان نترك30 مليون مصري لا يقرأون ولا يكتبون وتلعب بهم سلوكيات غريبة وافكار شاذة وقوي سياسية لا تحترم إرادة الإنسان وعقله وما نشاهده الأن من مظاهر سلوكية تبدأ بعشوائية الفوضي وتنتهي عند غياب الرؤي.
هناك اكثر من جانب في قضية الأمية يمكن ان تساعد علي البدء في هذه المعركة الحضارية:
اولا: لا أعلم عدد خريجي كلية التربية من جميع التخصصات الذين يجلسون علي الأرصفة في الشوارع بلا عمل لأكثر من عشر سنوات ولكن المؤكد انهم بعشرات الالاف هؤلاء درسوا قواعد التدريس والتربية ويمكن الإستعانة بهم في مشروع كبير لمحو الأمية في كل ربوع مصر بحيث تقدم لهم الحكومة رواتب مناسبة مع صرف بدلات إضافية لمن يعملون في الأقاليم.. ان هذا العدد من حملة المؤهلات العليا يمكن ان يتفرغوا لهذه المهمة القومية الكبري وخلال سنوات قليلة يمكن القضاء نهائيا علي هذه الكارثة الخطيرة.
ثانيا: ان يتم التنسيق مع هيئة قصور الثقافة التي تنتشر في كل ارجاء مصر لإستخدام مقراتها في إعداد دورات لمحو الأمية في جميع المحافظات وان تقدم الحكومة لقصور الثقافة دعما ماليا مناسبا لكي تشارك في هذه المهمة.
ثالثا: الإستعانة بمئات الالاف من خريجي الجامعات الذين تطاردهم مواكب البطالة ويرغبون في المشاركة في هذا المشروع مقابل مكافأة مادية مجزية لا تقل عن1500 جنيه شهريا ووضع برامج ملزمة لكل خريج لمحو امية عدد معين خلال فترة زمنية محددة.
رابعا: الإستعانة ببرامج الدول الأجنبية التي حققت إنجازات في تجاربها مع محو الأمية والأساليب الحديثة في التعليم ومن بين هذه التجارب دول لجأت إلي برامج تدريبية لتعليم حرفة من الحرف واكتساب خبرات في مجال معين وهذا الأسلوب مطلوب بين الشباب وصغار السن بصورة خاصة. ان هذه الطريقة يمكن ان تفتح مجالا اكبر لتدريس دورات في الكمبيوتر بحيث يخرج الدارس من دورات محو الأمية الي دورات تعليمية وتدريبية في مجالات الإنتاج وهنا يمكن ان تشارك الشركات الكبري في مثل هذه البرامج وتختار التخصصات التي تناسب اساليب الإنتاج فيها وهنا يمكن ان تشارك في تمويل هذه البرامج.. ان في مصر الأن مؤسسات كثيرة لا تجد العامل المناسب من حيث القدرات والتدريب والخبرة ولو اننا واجهنا مشكلة الأمية وسرنا بها في طريق واحد مع اكتساب خبرات جديدة فسوف نوفر عمالة جيدة ومدربة وفي نفس الوقت نواجه واحدة من اخطر الأزمات في مصر وهي مشكلة البطالة.
خامسا: ان خطة محو الأمية ينبغي ان تكون سياسة حكومة وليس مجرد هيئة صغيرة تخصص لها بعض الموارد المالية وذلك لضمان التنسيق بين جميع الوزارات وهنا تدخل كل مؤسسات الدولة الثقافية والدينية والتعليمية والإعلامية مشاركة في هذا المشروع.. لا مانع ابدا من استخدام المساجد ودور العبادة في دورات محو الأمية أو مشاركة الفضائيات في تقديم برامج ثابتة أو استخدام المدارس في الفترات المسائية وتشجيع طلاب الجامعات في العطلات الصيفية للمشاركة في هذا المشروع مقابل عائد مادي مناسب حسب الأعداد التي يقومون بمحو اميتها
لا احد يعرف حتي الأن عدد خريجي الجامعات والمدارس المتوسطة الذين لا يعملون وهم بالملايين ومنهم من قضي سنوات طويلة ينتظر عملا لا يجئ.. وهنا لا بد ان نفكر في طريقة لإستخدام هذه القدرات في مواجهة واحدة من اخطر الأمراض في مصر وهي الأمية.. ان الدخول في مثل هذا المشروع سوف تترتب عليه عدة نتائج هامة.. اولها ان نمسح هذا العار الذي لحق بكل اجيال مصر في وجود هذا العدد الهائل من الأميين.. ثانيها ان نفتح فرص عمل لشباب تتكدس بهم الشوارع والمقاهي والدولة عاجزة عن توفير فرص عمل لهم.. وثالثها ان محو امية هذه الملايين يمكن ان يكون خطوة نحو تأهيلهم وتدريبهم علي حرف معينة ليشاركوا في الإنتاج علي اسس عصرية وحضارية جديدة..
وقد يكون مشروع محو الأمية بداية لمواجهة مأساة اطفال الشوارع الذين يزيد عددهم علي ثلاثة ملايين طفل
وقبل هذا كله فإن محو امية الملايين الذين ينتشرون في كل ارجاء مصر ريفا وحضرا سوف يخلق مناخا جديدا يفتح ابوابا لعقل جديد وسلوكيات اكثر تحضرا.. ان فوضي الشارع.. وخزعبلات الفكر.. وعشوائيات السياسة وانحدار مستوي الحوار والسلوك والفكر وهذه الغمة التي اجتاحت حياة المصريين بدأت عند حدود الأمية وملايين لا يقرأون ولا يكتبون ثم امتدت الي تعليم فاسد.. وثقافة مشوهة وإعلام مرتجل وكانت النتيجة هذا الشارع الغريب الذي نراه الآن بكل ما فيه من الفوضي والخلل إبتداء بالملايين من اطفال الشوارع وهم لا يقرأون ولا يكتبون وانتهاء بهذه الجموع التي يحركها فكر متخلف نحو مصير مجهول ومستقبل غامض.
ان الأمية هي اخطر امراض مصر المعاصرة وتقف وراءها سلسلة طويلة من التوابع وحين نقضي علي هذه المأساة التاريخية سوف تتغير أشياء كثيرة في حياتنا وسوف نمسح عارا لن تغفره لنا الأجيال القادمة.
.. ويبقي الشعر
في الركن يبدو وجه أمي
لا أراه لأنه
سكن الجوانح من سنين
فالعين إن غفلت قليلا لا تري
لكن من سكن الجوانح لا يغيب
وإن تواري.. مثل كل الغائبين
يبدو أمامي وجه أمي كلما
اشتدت رياح الحزن.. وارتعد الجبين
الناس ترحل في العيون وتختفي
وتصير حزنـا في الضلوع
ورجفة في القلب تخفق.. كل حين
لكنها أمي
يمر العمر أسكنـها.. وتسكنني
وتبدو كالظلال تطوف خافتة
علي القلب الحزين
منذ انشطرنا والمدي حولي يضيق
وكل شيء بعدها.. عمر ضنين
صارت مع الأيام طيفـا
لا يغيب.. ولا يبين
طيفـا نسميه الحنين..
<<<<
في الركن يبدو وجه أمي
حين ينتصف النهار..
وتستريح الشمس
وتغيب الظلال
شيء يؤرقني كثيرا
كيف الحياة تصير بعد مواكب الفوضي
زوالا في زوال
في أي وقت أو زمان سوف تنسحب الرؤي
تكسو الوجوه تلال صمت أو رمال
في أي وقت أو زمان سوف نختتم الرواية..
عاجزين عن السؤال
واستسلم الجسد الهزيل.. تكسرت
فيه النصال علي النصال
هدأ السحاب ونام أطيافـا
مبعثرة علي قمم الجبال
سكن البريق وغاب
سحر الضوء وانطفأ الجمال
حتي الحنان يصير تـذكارا
ويغدو الشوق سرا لا يقال
في الركن يبدو وجه أمي
ربما غابت.. ولكني أراها
كلما جاء المساء تداعب الأطفال
<<<<
فنجان قهوتها يحدق في المكان
إن جاء زوار لنا
يتساءل المسكين أين حدائق الذكري
وينبوع الحنان
أين التي ملكت عروش الأرض
من زمن بلا سلطان
أين التي دخلت قلوب الناس
أفواجا بلا استئذان
أين التي رسمت لهذا الكون
صورته في أجمل الألوان
ويصافح الفنجان كل الزائرين
فإن بدا طيف لها
يتعثر المسكين في ألم ويسقط باكيا
من حزنه يتكسر الفنجان
من يوم أن رحلت وصورتها علي الجدران
تبدو أمامي حين تشتد الهموم وتعصف الأحزان
أو كلما هلت صلاة الفجر في رمضان
كل الذي في الكون يحمل سرها
وكأنها قبس من الرحمن
لم تعرف الخط الجميل
ولم تسافر في بحور الحرف
لم تعرف صهيل الموج والشطآن
لكنها عرفت بحار النور والإيمان
أمية..
كتبت علي وجهي سطور الحب من زمن
وذابت في حمي القرآن
في الأفق يبدو وجه أمي
كلما انطلق المؤذن بالأذان
كم كنت المحها إذا اجتمعت علي رأسي
حشود الظلم والطغيان
كانت تلم شتات أيامي
إذا التفت علي عنقي حبال اليأس والأحزان
تمتد لي يدها بطول الأرض..
تنقذني من الطوفان
وتصيح يا الله أنت الحافظ الباقي
وكل الخلق ياربي إلي النسيان
نقلاً عن جريدة " الأهرام ".