فاروق جويدة
كان ينبغي ان تفرز ثورة يناير طائرا يحلق بجناحين في سماء مصر سلطة قوية ومعارضة مؤثرة وكانت كل الشواهد تؤكد ان مصر امام حدث ضخم ومتغيرات كبيرة وان الشعب المصري الذي استطاع ان ينتزع إرادته امام سلطة مستبدة سوف يبدأ مرحلة جديدة يعيد فيها ترتيب كل الأشياء من خلال منظومة سطرتها دماء الشهداء وهي دعوة للعدالة والحرية والكرامة الإنسانية..
في فترة زمنية قصيرة جدا في حسابات الزمن وهي18 يوما استطاع المصريون ان يوحدوا إرادتهم وقرارهم بإسقاط النظام وامام مشهد تاريخي اذهل العالم كانت نهاية حكم الرئيس السابق وسقوط الأركان الأساسية التي قام عليها النظام خلال ثلاثين عاما..
كان من المفروض امام هذه المقدمات المذهلة في إنجازاتها ان تخرج مصر من هذا الإمتحان ومعها نظام حكم جديد ينطلق بها نحو مستقبل أفضل.. ومعارضة قوية قادرة في اي لحظة علي تعديل المسار وتحقيق اهداف الثورة واحلام الملايين الذين خرجوا يطالبون بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
بعد الأيام الأولي من سقوط النظام انتهي شهر العسل بين القوي السياسية التي تجمعت في ميدان التحرير وبدأ الخلاف امام سؤال حاسم.. من أين نبدأ ؟ كانت هناك افكارا كثيرة عن نقطة البداية خاصة ان القوي السياسية لم تكشف مواقفها وحساباتها بالوضوح الكامل امام المجلس العسكري الذي بادلها الغموض بغموض أكبر.. لا أحد يعلم ما دار في الكواليس وتحت الموائد حول مستقبل مصر السياسي في الأيام الأولي لما بعد رحيل النظام السابق.. ولا شك ان هذه الفترة ترتبت عليها اثار كبيرة فيما حدث بعد ذلك من النتائج..
لم تستغرق الأحداث الكثير من الوقت وانقسم الشارع المصري الي فصائل وهنا ظهرت بقوة فصائل جماعة الإخوان المسلمين ثم كانت كتائب السلفيين واستطاع التيار الديني ان يفرض سيطرته علي البلاد في فترة وجيزة امام غياب القوي الأخري التي كانت بعيدة تماما عن الشارع المصري ومع دعم واضح من المجلس العسكري فاز الإسلاميون بنتائج الإعلان الدستوري ثم الأغلبية في مجلس الشعب ثم اغلبية أخري في مجلس الشوري ثم كان الإنجاز الأكبر بالفوز بمؤسسة الرئاسة..
هذه الضربات السريعة دخلت بالقوي السياسية المدنية الي حالة تشبه فقدان الوعي مع عدم وضوح في الرؤي والمواقف وكان الإنقسام الحاد في معركة الرئاسة أكبر فرصة للإسلاميين للإنقضاض علي السلطة بالكامل.. حتي هذه اللحظة كان هناك من يقول لماذا لا نعطي التيار الديني الفرصة كاملة ونتابع ما يحدث وبعد ذلك تكون الحسابات والخلافات وما يطلق عليه قوي المعارضة..
كان امرا غريبا ان يكشر التيار الديني عن انيابه وان يقرر إقصاء القوي السياسية بل انه وصل الي نتيجة مبكرة في رفض المعارضة او حتي الحوار مع قوي الثورة بإختلاف توجهاتها.. هنا اسقط التيار الإسلامي من حساباته جميع قوي الثورة بما فيها شباب الثورة و6 إبريل وكفاية واحزاب الشباب الصاعدة واستبعد ايضا رموز العمل الوطني من كبار السياسيين وفي نهاية القائمة استبعد الأحزاب التقليدية متجاهلا كل تاريخها في مواجهة العهد البائد حتي هؤلاء الذين دافعوا عن القوي الإسلامية في فترات اضطهادها وإقصائها عن المشهد السياسي لاقوا نفس المصير.
وهنا انفرد التيار الديني بسلطة القرار رافضا كل اشكال المعارضة بعد ان تأكد ان قوي المعارضة لن تفعل شيئا امام واقع سياسي جديد تجسد في صندوق الإنتخابات والتكتل الواضح بين الإخوان وبقية التيارات الإسلامية من أدناها الي اقصاها وهنا كان حشد المليونيات التي دفعت بها التيارات الدينية الي ميدان التحرير.. ومن هذه الإنقسامات بدأت رحلة الصراع والفوضي في الشارع المصري امام سلطة جديدة مستبدة ومعارضة ضعيفة لم تستطع ان تتواصل مع المواطنين.. وحين شعرت السلطة بضعف المعارضة تمادت في غيها وشعرت انها قادرة علي تفكيك مفاصل الدولة المصرية والسيطرة عليها وساعدها علي ذلك حالة الإنقسام والترهل وغياب الشفافية والمصداقية بين صفوف المعارضة..
وساءت احوال الناس علي كل المستويات اقتصاديا وسياسيا وامنيا واخلاقيا وكان السبب في ذلك كله سلطة ضعيفة وعاجزة ومعارضة بلا هدف او برامج.. كان ضعف السلطة وتخاذلها امام قضايا المجتمع وهموم المواطن والمشاكل والأزمات التي احاطت به كل هذا انعكس علي اداء اجهزة الدولة فكانت حالة الإنفلات الأمني والعجز الإقتصادي وتفكك المؤسسات الرئيسية وحين حاولت السلطة استعادة هيبتها كانت هناك مؤسسات كثيرة قد دخلت منطقة الإنقسامات والصراعات ومنها القضاء والإعلام والأمن والمجتمع المدني وقوي المعارضة, ولم تكن السلطة علي درجة كافية من المصداقية والأمانة وهي تسجن الثوار وتدين شبابا قدم حياته وعمره وتلقي بهم في السجون علي طريقة النظام السابق.
نحن امام سلطة ضعيفة تخفي مظاهر ضعفها في إجراءات ظاهرية لا تعكس القوة ولكنها تؤكد الفشل.. اول هذه المظاهر انها لم تحافظ علي تماسكها ووحدة اهدافها امام قوي المعارضة.. من هذه الظواهر ايضا اختلاق المعارك مع الإعلام والقضاة والتشكيك في ولاء الأمن واجهزته.. من هذه الظواهر ايضا الخوف والتردد الشديد في إجراء مصالحات وطنية مع القوي السياسية والسرعة الشديدة في إصدار القوانين.. والشيء المؤكد ان ضعف السلطة كان مؤشرا علي ان المعارضة لن تكون علي مستوي الأحداث والمسئولية في هذا المناخ المشبوه.
ان عناصر التفاعل في المجتمعات هي التي تؤكد الظواهر الإيجابية فيها ومن هنا فإن عجز السلطة وفشلها في إدارة شئون مصر ترتبت عليه اثار خطيرة من بينها تخاذل المعارضة وانسحابها بشكل مزري في الشارع السياسي.. من يتابع صورة المعارضة المصرية سوف يتأكد انها وليد شرعي لسلطة مشوهة غير قادرة علي القيام بمسئولياتها وتاريخ قديم من السلبية وعدم الجدية.. ان ما حدث من انقسامات في صفوف الثوار وانسحاب الكثيرين منهم امام إغراءات أو مكاسب وما احاط بالرموز الوطنية من فقدان للتواصل مع المواطنين وغياب الأحزاب عن الشارع وغضبة الجماهير التي تجاوزت في رفضها وسخطها كل احلام قوي المعارضة فكان ظهور حركة تمرد وهي لا تنتمي الي صفوف المعارضة.. كل هذا كان يؤكد اننا امام حالة من الفشل الكامل بما في ذلك سلطة القرار والمعارضة معا.. وكما عجزت السلطة عن حل مشاكل المواطنين وتركت الملايين منهم يعانون ظروفا معيشية صعبة.. وكما قامت السلطة بتهميش وإقصاء جميع القوي السياسية لتؤكد رغبتها في حكم من البطش والتسلط علي الجانب الأخر غابت المعارضة تماما عن الشارع واكتفت بالبرامج التليفزيونية والندوات واللقاءات في نوادي القاهرة.. هنا كان الفشل واضحا في سلطة لا تحل المشاكل بل تزيدها تعقيدا فأصبحت بعيدة تماما عن نبض الشارع وفقدت تواصلها معه ومعارضة افتقدت من البداية كل جسور التواصل مع المواطنين وعاد الشارع المصري مرة أخري الي حالة من الفراغ تبحث عن احد يملؤها.. من هنا كانت الدعوات الصريحة والواضحة للجيش لكي يملأ هذا الفراغ ويعالج هذا الفشل المزدوج.. وكانت ايضا حالة التمرد التي اصابت الشباب امام اجيال اهدرت ثورته واستباحت احلامه.. ثم كان خروج فئات كثيرة من الشعب لها مطالبها واحتياجاتها فكانت احداث قطع الطرق والتجاوزات الأمنية واقتحام مؤسسات الدولة والمظاهرات الفئوية واحداث الفتنة الطائفية.
ان الأزمة الحقيقية في هذه الأحداث انها لا تجتمع في سياق واحد وهي جهود ومواقف متناثرة لا يجمعها هدف ولا فكر ولا قيادة.. ان هذه المرحلة هي أخطر ما تواجهه مصر الآن.. سلطة بلا هيبة.. ومعارضة بلا حشود وشارع سياسي منفلت تسوده الفوضي والإنقسامات وقبلهما الفراغ.
كان البعض يري ان الجيش هو الحل إذا انهارت المنظومة الأمنية وعجزت القوي السياسية سواء كانت السلطة او المعارضة علي تسيير احوال البلد.. هذه الكتلة البشرية العائمة في الشارع المصري الآن هي مصدر الخطورة خاصة انها تكاد تفقد الثقة في نظام تركت في يديه اقدارها ولم ينجح ويبدو انه لن ينجح ومعارضة متفككة تراجعت احلامها كثيرا واصبحت هناك مسافة شاسعة ما بين احلام الجماهير في الشارع بكل صخبها واحلام معارضة هزيلة بكل ضعفها.
ان المسئولية الآن تقع علي الطرفين السلطة والمعارضة وبينهما جيل حائر من شباب هذا الوطن وحين يجئ الطوفان علي كل طرف ان يلوم نفسه.. ان السلطة كانت قدراتها اقل كثيرا من ان تتحمل مسئولية وطن في حجم مصر.. والمعارضة كانت إمكانياتها أقل كثيرا من احلام الناس فيها.. والأن يقف الشارع المصري بهذه الملايين الضخمة وامامه ثلاثية حزينة.. نظام سابق يقبع خلف السجون سقط في ايام قليلة ولم يستطع ان يحافظ علي وجوده ومقوماته امام الضعف والترهل والفساد..
ونظام جديد لم يصمد كثيرا امام امراض السلطة التي ورثها علي الطريقة الفرعونية حيث جذبته سلطة البطش والإستبداد فأطاح بكل من شاركوه رحلة النضال في وجه النظام السابق.. ومعارضة بلا انياب ولا جذور ولا تواصل مع الناس.. هذا هو حال المصريين الأن كالإبن اليتيم الذي فقد الأم والأب ويبحث عن احد يتبناه.
الخلاصة عندي ان جميع اطراف اللعبة السياسية في مصر لم يكونوا علي مستوي اللحظة التاريخية التي اتاحتها ثورة يناير للإنسان المصري ليبدأ رحلته مع المستقبل.. كانت السلطة اقل في الإمكانيات والقدرات والمعارضة اقل في المصداقية والشفافية وكان الفراغ واسعا وسحيقا يبحث عن اياد قادرة وواعدة ونظيفة تمتد من وراء الأمواج العاتية لتنقذ شعبا من حقه ان يعيش بكرامة وان يواصل مسيرته في صنع حياة افضل
ورغم هذه الإنقسامات المخيفة مازال عندي يقين ان شباب الثورة قادر علي ان ينتزع المبادرة في الوقت المناسب ليملأ الفراغ السياسي الذي خلفه النظام الحاكم بضعفه وخلفته المعارضة بتخاذلها ولن يكون هذا الشباب إخوانيا او سلفيا أو ليبراليا أو مسيحيا أو إسلاميا سيكون مصريا.. ومصريا فقط.
..ويبقي الشعر
لماذا استكنت....
وأرضعتـنا الخوف عمرا طويلا
وعلمتـنا الصمت.. والمستحيل..
وأصبحت تهرب خلف السنين
تجيء وتغدو.. كطيف هزيل
لماذا استكنت؟
وقد كنت فينا شموخ الليالي
وكنت عطاء الزمان البخيل
تكسرت منـا وكم من زمان
علي راحتيك تكسر يوما..
ليبقي شموخك فوق الزمان
فكيف ارتضيت كهوف الهوان..
لقد كنت تأتي
وتحمل شيئـا حبيبا علينا
يغير طعم الزمان الرديء..
فينساب في الأفق فجر مضيء..
وتبدو السماء بثوب جديد
تـعانق أرضا طواها الجفاف
فيكـبر كالضوء ثدي الحياة
ويصرخ فيها نشيد البكارة
يصدح في الصمت صوت الوليد
لقد كنت تأتي
ونشرب منك كؤوس الشموخ
فنعلـو.. ونعلـو..
ونرفع كالشمس هاماتنا
وتسري مع النور أحلامنا
فهل قيدوك.. كما قيدونا..؟!
وهل أسكتوك.. كما أسكتونا؟
دمائي منك..
ومنذ استكنت رأيت دمائي
بين العروق تـميع..
تـميعوتصبح شيئـا غريبا عليا
فليست دماء.. ولا هي ماء.. ولا هي طين
لقد علـمونا ونحن الصغار
بأن دماءك لا تستكين
وراح الزمان.. وجاء الزمان
وسيفك فوق رقاب السنين
فكيف استكنت..وكيف لمثلك أن يستكين
علي وجنتيك بقايا هموم..
وفي مقلتيك انهيار وخوف
لماذا تخاف؟لقد كنت يوما تـخيف الملوك
فخافوا شموخك
خافوا جنونـك
كان الأمان بأن يعبدوك
وراح الملوك وجاء الملوك
وما زلت أنت مليك الملوك
ولن يخلعوك..
فهل قيدوك لينهار فينا
زمان الشموخ ؟
وعلمنا القيد صمت الهوان
فصرنا عبيدا.. كما اسـتعبدوك
تعال لنحي الربيع القديم..
وطهر بمائك وجهي القبيح
وكسر قيودك.. كسر قيودي
شر البلية عمر كسيح
وهيا لنغرس عمرا جديدا
لينبت في القـبح وجه جميل
فمنذ استكنت.. ومنذ استكنـا
وعنوان بيتي شموخ ذليل
تعال نعيد الشموخ القديم
فلا أنا مصر.. ولا أنت نيل
قصيدة الي نهر فقد تمرده سنة1983
نقلاً عن جريدة " الأهرام"