فاروق جويدة
لا بد ان تكون لدينا الشجاعة بأن نعترف أن تجربتنا الأولي مع الديمقراطية قد فشلت ولا يكفي ان نعترف بهذا الفشل ولكن الحكمة تقتضي ان نعرف اسباب هذا الفشل..
نحن الآن امام خريطة جديدة للطريق وأمام رئيس مؤقت في ظل غياب كامل للمؤسسات الدستورية ابتداء بالبرلمان وانتهاء بالدستور مرورا بمجلس الشوري وقد كان خارج السياق تماما.. و هذا يعني اننا نبدأ من جديد علي اساس ان ما حدث يوم30 يونيه كان ثورة جديدة وان اعتبره البعض امتدادا او تابعا لثورة يناير وان كان هناك من يرفض تصنيفه في دائرة الثورات.. إلا ان المهم ان هذا اليوم قد وضع ثوابت جديدة غيرت من خريطة الواقع السياسي المصري وكان اخطر ما فيها انها كانت شهادة وفاة لأولي تجارب الحكم الإسلامي في العالم العربي.. وإذا كان المطلوب ان نسلم بما حدث فإن الأمانة تقتضي ان يعرف كل طرف اخطاءه وخطاياه حتي لا ندور مرة اخري في حلقة مفرغة من التجارب التي لن تصل بنا الي شيء.
< اول اخطاء تجربتنا مع الديمقراطية ان التيارات الإسلامية اعتبرت ان ثورة يناير كانت ثورة إسلامية ولم تكن ثورة مصرية فخلعت عنها ثوب الوطنية لترتدي ثوبا دينيا ولهذا تم بناء كل شيء علي هذه المقدمة الخاطئة.. لقد شاركت جموع الشعب المصري في ثورة يناير ولم تأخذ الثورة لونا او فكرا او اتجاها غير انها ثورة وطنية حملت كل مشاعر الرفض والغضب لتغيير نظام استباح ثوابت الوطن زمنا طويلا.. لم يفرق المصريون وهم يحتشدون في ميدان التحرير بين مسلم ومسيحي او بين ريفي وحضري أو بين شيخ وقس.. خرج المصريون في هذا اليوم تحت علم واحد وغاية واحدة.. كان ينبغي ان تكمل الثورة طريقها من هذا المنطلق الوطني الخالص إلا ان التيارات الإسلامية المنظمة جمعت حشودها وفرضت إرادتها علي القوي الأخري واستطاعت أن تأخذ الثورة كلها في إتجاه واحد دون مراعاة لجميع القوي التي شاركت فيها.. لقد تجسد ذلك كله في نتائج الاستفتاءات والعلامات الخضراء والسوداء والمؤمن والكافر والشريعة وغير الشريعة ثم اتضح بصورة اكبر في انتخابات مجلس الشعب ثم الشوري ثم الرئاسة حتي وجد المصريون ثورتهم قابعة في احضان التيار الإسلامي الذي تجرأ علي الحقيقة واعلنها صراحة اننا امام ثورة إسلامية ومشروع جديد للخلافة ينطلق من ارض الكنانة.. لم يحاول التيار الإسلامي ان يوازن مواقفه وهو يعيد تشكيل الدولة المصرية بين اهدافه واطماعه وحقوق بقية المصريين وهنا كانت بداية تقسيم الشارع المصري التي وصلت الآن الي اسوأ حالاتها في هذه الحشود المتنافرة التي ترفض بعضها بعضا وللأمانة فإن قيادة الدولة المعزولة شجعت هذا التوجه نحو الانقسامات والإستقطاب والإقصاء ولم تدرك امام قصور التجربة وغياب الرؤي خطورة ذلك كله علي امن الوطن واستقراره..
< كان الخطأ الثاني ان البعض منا تصور ان الديمقراطية هي فقط صندوق الانتخابات والحشود المليونية وان علي الشعب ان يخضع للحكم الجديد الذي استخدم الدين الي ابعد مدي وراهن علي حشوده الضخمة وان الشرعية تعني اصوات الناخبين.. تجاهل هذا الحكم مطالب شعب يعاني ظروفا اقتصادية وامنية وإنسانية غاية في السوء وحين حاول هذا النظام ان يلقي المسئولية علي نظام سبق كان الرد: وماذا فعلتم لإصلاح ما افسده الآخرون ؟.. وكما انقسمت جموع الشعب امام الدين انقسمت مرة اخري امام المشاكل والأزمات, فقد توقفت السياحة ومعها اكثر من اربعة ملايين مواطن تركوا اعمالهم.. وتوقفت انشطة كثيرة امام الفوضي وعدم الاستقرار ولجأت الحكومات المتعاقبة إلي مسكنات العهد الماضي في القروض والمعونات ووصل عدد المصانع التي توقفت عن العمل الي اكثر من4000 وحدة انتاجية وهنا أطل الجانب الديني مرة اخري علي سياسات مصر الخارجية وتجسد في هذه الفجوة العميقة بين النظام الحاكم ودول الخليج العربي مع اكتشاف خلايا دينية تعمل ضد النظم في هذه الدول..
علي الجانب الآخر فإن هناك جوانب كثيرة غامضة في العلاقة بين الإدارة الأمريكية والقوي الإسلامية بعد ثورة يناير وهل كانت امريكا صادقة بالفعل في نياتها ومواقفها مع هذه التيارات ام انها دفعت بها دفعا الي مغامرة غير محسوبة النتائج في حكم مصر.. في تقديري ان امريكا لم تصدق يوما مع الإسلام السياسي باستثناء لحظات قصيرة جدا في مقاومة النفوذ السوفيتي في افغانستان أو تأكيد الجانب الإنساني امام العالم في البوسنة.. لقد شجعت الإدارة الأمريكية وصول الإسلاميين الي السلطة في مصر بدافع إغراءات الحشود ومغامرة التجربة ويبدو انها كانت تراهن كثيرا علي الفشل اكثر من النجاح ولهذا فإن امريكا لم ترض عن تجربة الإسلاميين في حكم مصر رغم كل التنازلات التي قدموها أو وعدوا بها.
في هذا السياق لا يمكن لنا ان نتجاهل ان الإسلاميين حين وصلوا الي السلطة راودتهم احلام كثيرة خارج حدود الوطن تمثلت في حلم الخلافة والتنظيمات الدولية الإسلامية وبرامجها وخططها والتزاماتها وقد انعكس ذلك علي اسلوب الأداء ومدي الالتزام بقضايا الوطن وهموم الناس ومشاكلهم وكانت الازدواجية في الولاء وتعددية الإنتماء حائلا دون الوقوف علي مشاعر المواطن المصري الحقيقية ومدي المشاركة بين هذه التيارات وبين جموع المواطنين.. كانت إزدواجية الولاء من اهم الأسباب التي افقدت تجربة الإسلاميين في الحكم التواصل مع الوطنية المصرية وهي من اهم مقومات وثوابت الإنسان المصري في كل العصور.
< كان الخطأ الثالث من نصيب الوجه الآخر من النخبة وهو ما اطلقوا عليه النخبة المدنية رغم ان مصر لم تعرف هذه التقسيمات وكان هناك تداخل عميق بين مكونات الإنسان المصري في تدينه وانفتاحه علي الآخر وكانت لدينا نماذج دينية قام فكرها علي اسس ليبرالية وكانت لدينا نماذج ليبرالية لم تتخل عن مقوماتها الدينية ونري ذلك واضحا عند كتابنا الكبار في إسلاميات العقاد وكتب السيرة عند طه حسين ورؤي لطفي السيد وهيكل باشا وعبدالرازق ومحمد عبده, حتي ان سيد قطب نفسه بدأ حياته ناقدا وشاعرا وهو اول من قدم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.. كان من الصعب ان تجد مثقفا او مبدعا كبيرا خرج علي ثوابت دينه او تنكر لها بل ان هناك جيلا من المثقفين المصريين جمع وسطية الدين وانطلاق الفكر مثل عبد الرحمن الشرقاوي وخالد محمد خالد وبنت الشاطئ وامين الخولي.
كان خطأ جسيما تقسيم النخبة المصرية ونحن نعيش زمان ثورة اقتلعت نظاما كاملا.. كان ينبغي ان نحافظ علي تماسك ووحدة الكيان المصري حتي نضع اقدامنا علي اول الطريق ولكن الانقسامات الفكرية اطاحت بمنظومة التجانس الفكري التي صنعتها مصر عبر سنوات طويلة.. لم يصل الصراع الفكري في مصر في يوم من الأيام الي هذه الدرجة من الحدة والمواجهة والرفض ومحاولات التصفية والإقصاء.. لم يكن هذا المنهج في المواقف يتناسب مع ثورة قادها الشباب يوم25 يناير إلا ان امراضنا الفكرية طفحت علي وجه الحياة مرة واحدة وشجع علي ذلك مناخ سياسي منفلت وقوي سياسية لم تستوعب خطورة اللحظة وجسامة المسئولية ومضي كل تيار في طريقه يحشد المليونيات من ابناء الشعب المتعب الفقير وامام اشباح كثيرة شجعت هذه المواجهات كانت ثلاثية الأمية والفقر والثقافة ابرز عوامل الانقسام والتشتت في الشارع المصري.. لا نستطيع ان ننكر او نتجاهل دور الإعلام في إشعال الفتن في حياة المصريين وبقدر ما كان الإعلام اداة وعي ورؤي بقدر ما كان معول هدم ودمار.. كانت منصات الإعلام المصري اخطر الوسائل التي دمرت ثوابت كثيرة وفتحت الطريق امام إنسان يطالب بحريته ولكنها وهي تفتح الطريق دمرت قيما كثيرة واستباحت افكارا واشخاصا وتاريخا شيده الإعلام المصري بالمصداقية والترفع..
ان آخر ما بقي امامنا في تجربتنا الأولي مع الديمقراطية هو اطلال القوي السياسية التي تترنح الآن امام واقع مؤلم ومستقبل غامض ومجتمع وصل الي اخطر مراحل التفكك والإنقسام.. لا اعتقد ان المريض في هذه الحالة يمكن ان يجري عملية جراحية جديدة وعلي الجسد المتعب ان يتماسك اولا حتي نفكر في البدء في جراحة جديدة.. ان اخطر ما خلفته التجربة الأولي ثلاث نقاط اساسية يجب ان نتوقف عندها
< اولا: ان حالة الانقسام بين المواطنين المصريين وليس بين القوي السياسية هي اسوأ ما وصلنا اليه من نتائج التجربة الأولي.. لم تعد الانقسامات الآن بين ابناء النخبة من الإسلاميين او السلفيين او الإخوان او الليبراليين ولم تعد خلافات في الرأي والمواقف بين اطراف اللعبة السياسية ولكنها تسللت الي ابعد نقطة في مكونات هذا المجتمع واصبحت تهدد كيان الأسرة المصرية الآباء والأبناء والأخوة وللأسف الشديد ان الخلافات لا تستند لرأي أو فكر ولكنها اجتاحت اهم مقومات الشخصية المصرية: وهي الدين وتحول المجتمع الي طوائف واقليات وهذا المرض اخطر ظواهر انحطاط الفكر حتي وصل بنا الحال الي مؤمنين وكفار وللأسف الشديد ان هذه التقسيمات الدينية تأخذ شكلا سياسيا ابعد ما يكون عن الحقيقة.. ان انقسام مصر الآأن بين الإيمان والكفر ظاهرة لم يكن لها وجود في حياة المصريين.
< ثانيا: ان مصر لن تتخلي ابدا عن وجهها الحضاري وتركيبتها المتنوعة المتداخلة وان أي فريق يحاول تغيير هذه الثوابت سوف يدفع بالمجتمع كله إلي هاوية سحيقة.. ان ثورة يناير لم تكن إسلامية فقط.. ولكنها جمعت كل ابناء هذا المجتمع ومن يتصور انه قادر علي فرض لون او فكر او وصاية علي كل المصريين لا يفهم ابدا ابعاد هذا الوطن ومكوناته الحضارية والثقافية.
< ثالثا: قبل ان نفكر في تجربة جديدة مع الديمقراطية علينا ان نسعي لترسيخ الثوابت الثقافية التي تقوم عليها في الحوار والاعتراف بالآخر والتعددية ورفض سياسة الإقصاء لأننا لا نحتمل كشعب ووطن تجربة فاشلة اخري ويكفينا ما حدث.
.. ويبقي الشعر
يقـولـون: سافر.. وجرب وحاول
ففوق الرءوس.. تـدور المعــــاول
وفي الأفـق غـيم.. صراخ.. عويل
وفي الأرض بركان سخط طـــويل
وفــــوق الزهور يـــموت الجــمال..
وتـحت السفوح.. تئن الجـبال
ويخـبو مع القهر عزم الرجال
ومازلت تحمل سيفـا عتيقـا..
تصارع بالحلم.. جيش الضلال
يـقـولون: سافر.. فمهما عشقـت
نهاية عشقك حزن ثقيل
ستغـدو عليها زمانـا مشاعـا
فـحلمك بالصبح وهم جميل
فكل السواقي التي أطربتـك
تـلاشي غنـاها
وكل الأماني التي أرقتـك..
نسيت ضياها
ووجه الحياة القديم البريء
تكسر منـك..
مضي.. لن يجيء
يقـولـون: سافر..
فـمهما تـمادي بك العمر فيها
وحلـــقت بالنـاس بين الأمل
ستـصبح يوما نـشيدا قـديما
ويطـويك بالصمت كهف الأجل
زمانـك ولـي وأصبحت ضيفـا
ولـن ينجب الزيف.. إلا الدجل..
يقولون سافر.. ولا يعلمون
بأني أموت... وهم يضحكون
فمازلت أسمع عنـك الحكايا
وما أسوأ الموت بين الظنون
ويخفيك عني ليل طويل
أخبئ وجهك بين العيون
وتـعطين قلبك للعابثين
ويشقـي بصدك من يخلصون
ويقصيك عني زمان لقيط
ويهنأ بالوصل.. من يخدعون
وأنثر عمري ذرات ضوء
وأسكـب دمي.. وهم يسكرون
و أحمل عينيك في كل أرض
و أغرس حلـمي.. وهم يسرقون
تساوت لديك دماء الشـهيد
وعطر الغواني وكأس المجون
ثلاثون عاما وسبع عجاف
يبيعون فيك.. ولا يخجلون
فلا تتـركي الفجر للسارقين
فعار علي النيل ما يفعلون
لأنك مهما تناءيت عنـي
وهان علي القلب ما لا يهون
و أصبحت فيك المغنـي القديم
أطوف بلحني.. ولا يسمعون
أموت عليك شهيدا بعشقي
وإن كان عشقي بعض الجنـون
فكل البلاد التي أسكرتني
أراها بقلـبي.. تراتيل نيل
وكل الجمال الذي زار عيني
و أرق عمري.. ظلال النـخيل
وكل الأماني الـتي راودتـني
و أدمت مع اليأس قلبي العليل
رأيتك فيها شبابا حزينـا
تسابيح شوق.. لعمر جميل
يقولـون سافر..
أموت عليك.. وقبل الرحيل
سأكتب سطرا وحيدا بدمي
أحبك أنت..
زمانـا من الحلم.. والمستحيـل
قصيدة انشودة المغني القديم 1989
نقلاً عن جريدة " الأهرام "