فاروق جويدة
يحتاج الواقع المصري الي قراءة موضوعية وامينة في هذه الظروف الصعبة, ولا يعقل ابدا ان تظل مصر ما يقرب من ثلاثة اعوام حقلا للتجارب السياسية ما بين رحيل النظام السابق وحزبه الوطني المنحل..
وتجربة مع المجلس العسكري بما كان لها وما كان عليها.. ثم تجربة اخري امتدت آثارها السيئة الي كل بيت في مصر وهي الإخوان المسلمين ونحن الأن نعيش في ظل تجربة لم تكتمل وعلينا ان نستعد لكي نواجه توابعها وعلينا ان ندرك من الآن ان هذه التجربة قد تكون الامتحان الأخير لنا لنخرج من عنق الزجاجة وننطلق الي آفاق جديدة أكثر استقرارا وامنا وكفاية ولم يعد من المقبول ان تتكرر الأخطاء او ان يضيع الهدف.
في تجربتنا الحالية لا بد ان نعترف بأن الجيش المصري تدخل في الوقت المناسب ومنع كارثة تاريخية كان من الممكن ان تدفع بهذا الوطن الي مستقبل غامض ومجهول.. وحين تتكشف الأوراق سوف يدرك المصريون ان عاما واحدا من حكم الإخوان قد دفع بالوطن كله الي محنة رهيبة في كل جوانب الحياة ابتداء بالأمن القومي المصري وانتهاء بالهوية المصرية التي طاردتها اشباح الانقسامات والعنف والدولة داخل الدولة وسيطرة جماعة علي مصير شعب صاحب دور وتاريخ وحضارة.. كان خروج الجيش لتأييد ثورة المصريين علي جماعة الإخوان يوم30 يونيو إنجازا تاريخيا بكل المقاييس..
علي جانب آخر فقد تحمل جهاز الشرطة المصري مسئوليته في حماية امن مصر بكل التجرد والانتماء لهذا الوطن... ان شهداء الشرطة الذين قدموا دماءهم بكل السخاء كانوا وساما للشرطة المصرية.. ومن اراد ان يعرف الحقيقة وسوف نعرفها يوما فعليه ان يراجع اعمال العنف والقتل والإرهاب والتخريب في ربوع مصر طوال الشهور الماضية, وعليه ان يتابع ما جري في سيناء وهي معارك حربية حقيقية ضد عصابات الإرهاب التي ترفع رايات الإسلام, وعليه ان يتابع عمليات التشويه في كل بلاد العالم التي قادتها زعامات الإخوان المسلمين وتنظيمهم الدولي ضد مصر علي كل المستويات الشعبية والرسمية بما في ذلك استدعاء الدول الأجنبية وقواتها العسكرية لدخول مصر وإنقاذ شعبها.
لأول مرة يشعر المصريون انهم امام دولة اخري اقيمت علي ارض الكنانة تحمل اسم دولة الإخوان انهم يستنجدون بقوات المارينز ضد المصريين ويدبرون المؤامرت مع جهات اجنبية للتدخل في شئون مصر ابتداء بورثة الخلافة العثمانية وانتهاء بملايين النفط القطري وقناة الجزيرة ودعم الإعلام الأمريكي المشبوه.. ان الوجه القبيح الذي ظهرت به جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي اسقط تماما كل مظاهر الانتماء والولاء لوطن عظيم اسمه مصر..
والآن نحن امام تجربة جديدة لا بد ان نضع لها من الضمانات والوسائل ما يمضي بها الي بر الأمان خاصة بعد ان ثبت لنا ان الأعداء في البيت وخارج البيت وان الأحداث الأخيرة قد كشفت للمصريين حقيقة المؤامرات التي تدبر لهم في اكثر من مكان واكثر من دولة, وهنا يجب ان نتوقف عند بعض الجوانب:
لا يمكن ان نلقي المسئولية كاملة كشعب ونخبة وجماهير علي الجيش المصري خاصة ما يتعلق بالمستقبل السياسي للدولة إذا كنا بالفعل نسعي الي بناء دولة ديمقراطية تؤمن بالحريات وحقوق الإنسان.. ان الجيش استطاع بدعم شعبي ان يتصدي لمؤامرة كبري ضد مصر.. وسوف تكشف الأيام ابعاد هذه المؤامرة حين تستقر الأحوال وتهدأ العواصف ولكن هذا الشعب الذي فرط في مسئولياته وتخلي عن دوره في حماية ثورته الأولي في25 يناير لا ينبغي ان يفرط مرة اخري في ثورته الثانية30 يونيو.. لقد وقع المصريون في خديعة كبري حين سلموا امرهم للإخوان المسلمون ما بين الاستفتاءات والانتخابات والأكاذيب التي ارتدت عباءة الدين وعليهم الآن ان يستردوا إرادتهم وقرارهم.. لقد ادي الجيش المصري دوره في حماية ثورتين ووافق الشعب في قراره بخلع رئيسين وعلي جماهير هذا الشعب ان تقوم وتحمي مستقبلها ومصيرها..
انا لا اتصور ان تبقي النخبة المصرية في حالة الضعف والهزال النفسي والفكري التي تعيشها الأن وعليها الآن ان تأخذ مواقعها لحماية حق هذا الشعب في حياة كريمة.. لقد خذلت النخبة الملايين التي خرجت في ثورة يناير وفرطت في دماء الشهداء بل انها استسلمت في مشهد بغيض لحشود الإخوان المسلمين اما خوفا او تواطئا او ثقة في غير مكانها.. علي هذه النخبة ان تدرك الآن ان ثورة يونيو لن تكون الأخيرة اذا استمرت حالة الضعف والترهل التي اصابت عقل مصر واصبح يسبح في هذا الفراغ.. هنا ينبغي ان يعاد النظر في منظومة الأحزاب السياسية وسوف نجد انفسنا مرة اخري امام قوي سياسية فاسدة كبرت وترعرعت في ظل نظم قمعية في عهد الوطني حينا ثم الإخوان في حين آخر.. نحن امام فرصة تاريخية لخلع جذور الاستبداد بكل مظاهره ولن يتم ذلك إلا من خلال منظومة حزبية جديدة تستلهم من ثورة يناير ويونيو افكارها وبرامجها ونبض شبابها.. ان في مصر الآن90 حزبا لا احد يعلم عنهم شيئا ومن العار والعبث ان تدور بنا الدائرة ليجد الشارع المصري نفسه مخيرا بين الوطني والإخوان مرة اخري وهناك من يمد يديه للخارج ويطلب الدعم من هنا او هناك.. وإذا حملت المؤشرات هذا الواقع فلا لوم علينا إذا طالبنا بتأجيل التجربة الحزبية حتي إشعار آخر وحتي تفيق النخبة المصرية من ثباتها العميق.
< لا اعتقد ان الإخوان المسلمين سوف يعترفون بالهزيمة ولكن المؤكد انهم يدركون حجم الخسائر التي لحقت بهم وهم يدركون ايضا انهم يتحملون مسئولية فشلهم في إدارة شئون مصر ولكن هذا كله لا يعني خروجهم من الساحة.. لابد ان نعترف بأن الشارع المصري تغير كثيرا في نظرته وتعاطفه مع الإخوان ولم تعد لديهم القدرة علي استخدام فزاعة الحشود ضد السلطة او ضد الشعب ولكن حالة الضعف التي يمر بها الإخوان لن تمنعهم من استخدام كل الوسائل لإستعادة نفوذهم وسوف يكون الخطأ الأكبر ان تستمر اعمال العنف او يلجأوا الي الأنشطة والأعمال السرية التي اعتادوا عليها او يحاولوا استقطاب التيارات الإسلامية الأخري والتخفي وراءها.. لقد تصدي المصريون للإخوان رافضين اسلوبهم في الحكم وطريقتهم في العمل السياسي واستغلالهم للدين وقبل ذلك كله اختيارهم للعنف ليس في مواجهة السلطة فقط ولكن للأسف الشديد في مواجهة الشعب وهذا خطأهم التاريخي.
ان الملايين التي خرجت يوم30 يونيو ترفض حكم الإخوان عليها الأن ان تحشد جموعها في تجربة حزبية جديدة لبناء واقع سياسي جديد.. إن غياب الإخوان عن الساحة سوف يترك فراغا وإذا لم تشارك جماهير الشعب في ملء هذا الفراغ فسوف يبحث عن اي شئ يملؤه ان البيوت الخالية تسكنها الخفافيش والعقول الفارغة تملؤها الخزعبلات
< نأتي هنا الي نقطة هامة وهي الاستعدادات التي تجري لإتمام المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة للشعب في ظل رئيس منتخب وبرلمان حقيقي وعلاقة صحية بين مؤسسات الدولة وذلك كله في ظل دستور يحفظ حقوق الشعب ويصون كرامته..
وإذا كان دستور2012 قد شهد مناطق خلاف كثيرة لأنه حمل فكر الإخوان فلا ينبغي ان يحمل الدستور الجديد فكر جماعة اخري وينبغي ان يكون دستورا للجميع.
هنا ينبغي ان نتوقف عند ثلاثية لا ينبغي ان نختلف عليها.. نريد في الدستور الجديد رئيسا إنسانا يمكن ان يحاسبه الشعب وليس رئيسا نصف إله فوق كل حساب.. وهنا ينبغي ان تكون هناك مسئوليات واضحة ومحددة لمهام رئيس الدولة بحيث لا نترك له الحبل علي الغارب في كل شئون الدولة ابتداء بقرارات العفو عن القتلة والمجرمين وانتهاء بتوقيع اتفاقيات غامضة تهدد امن البلاد واستقرارها..
وفي ظل هذا يجب ان تكون العلاقات واضحة بين مؤسسات الدولة بما في ذلك اختصاصات رئيس الحكومة وعلاقته برئيس الدولة في ظل منظومة تحمي هيبة الطرفين مع تأكيد واضح علي سلطة البرلمان كإرادة شعبية لها كل الحقوق في حماية مصالح الشعب ومحاسبة الرئيس والحكومة..
هذه الثلاثية الرئيس والحكومة والبرلمان شهدت لغطا كثيرا في تاريخ مصر لأن الخطوط لم تكن واضحة والمسئوليات كانت غامضة ولهذا زادت مساحات التداخل في الاختصاصات حتي تاهت الحقوق والواجبات وفتحت الباب واسعا للاستبداد والقهر وامتهان حقوق الشعب.
تبقي بعد ذلك ثلاثية اخري من واجب حكومة د. الببلاوي ان توليها اهتماما خاصا وان تنسي انها حكومة انتقالية لأن الأزمات لا تنتظر كثيرا امام مكاتب المسئولين..
ان ازمة الشارع المصري الآن هي الأمن وقد استردت الشرطة المصرية عافيتها بدعم كبير من الجيش ولكن علينا ان ننتظر او نتوقع بعض مظاهر الخروج علي القانون إذا استمر الإخوان في استخدام العنف وقد يرجع بنا ذلك الي سنوات سابقة وان كنت اتمني الا يدخلوا هذا السرداب المظلم تصفية للحسابات او استعادة النفوذ..
اما الأزمة الثانية من هذه الثلاثية فهي حشود الفقراء ومن هؤلاء الملايين الذين خرجوا في ثورة يناير ثم خرجوا في ثورة يونيو ورغم قيام ثورتين ورحيل رئيسين فلم يتغير شئ في حياتهم وإذا كانوا قد تعاملوا مع الشعب والثورة والسلطة بكل مشاعر النبل والترفع فلا ينبغي ابدا ان نسئ فهم رسالتهم وصبرهم علينا..
اما الأزمة الثالثة فهي عقل مصر الذي يحتاج الي صحوة حقيقية فقد شهد كل امراض التخلف العقلي والفكري والوجداني وعلينا ان نعيد له وعيه القديم وثقافته العريقة وإيمانه المتسامح وهذا يحتاج الي زمن اطول وإمكانيات اوسع ولكن ينبغي ان نبدأ من الأمس وليس اليوم وهذا يحتاج الي ثورات ثلاث في التعليم والثقافة والإعلام وهي ثلاثية التخلف والعقم التي اصابت اعظم ما يملك هذا الشعب وهي عقله.
.. ويبقي الشعر
لماذا استكنت....
وأرضعتـنا الخوف عمرا طويلا
وعلمتـنا الصمت.. والمستحيل..
وأصبحت تهرب خلف السنين
تجيء وتغدو.. كطيف هزيل
لما استكنت؟
وقد كنت فينا شموخ الليالي
وكنت عطاء الزمان البخيل
تكسرت منـا وكم من زمان
علي راحتيك تكسر يوما..
ليبقي شموخك فوق الزمان
فكيف ارتضيت كهوف الهوان..
لقد كنت تأتي
وتحمل شيئـا حبيبا علينا
يغير طعم الزمان الرديء..
فينساب في الأفق فجر مضيء..
وتبدو السماء بثوب جديد
تـعانق أرضا طواها الجفاف
فيكـبر كالضوء ثدي الحياة
ويصرخ فيها نشيد البكارة
يصدح في الصمت صوت الوليد
لقد كنت تأتي
ونشرب منك كؤوس الشموخ
فنعلـو.. ونعلـو..
ونرفع كالشمس هاماتنا
وتسري مع النور أحلامنا
فهل قيدوك.. كما قيدونا..؟!
وهل أسكتوك.. كما أسكتونا؟
دمائي منك..
ومنذ استكنت رأيت دمائي
بين العروق تـميع.. تـميع
وتصبح شيئـا غريبا عليا
فليست دماء.. ولا هي ماء.. ولا هي طين
لقد علـمونا ونحن الصغار
بأن دماءك لا تستكين
وراح الزمان.. وجاء الزمان
وسيفك فوق رقاب السنين
فكيف استكنت..
وكيف لمثلك أن يستكين
علي وجنتيك بقايا هموم..
وفي مقلتيك انهيار وخوف
لماذا تخاف؟
لقد كنت يوما تـخيف الملوك
فخافوا شموخك
خافوا جنونـك
كان الأمان بأن يعبدوك
وراح الملوك وجاء الملوك
وما زلت أنت مليك الملوك
ولن يخلعوك..
فهل قيدوك لينهار فينا
زمان الشموخ ؟
وعلمنا القيد صمت الهوان
فصرنا عبيدا.. كما اسـتعبدوك
تعال لنحي الربيع القديم..
وطهر بمائك وجهي القبيح
وكسر قيودك.. كسر قيودي
شر البلية عمر كسيح
وهيا لنغرس عمرا جديدا
لينبت في القـبح وجه جميل
فمنذ استكنت.. ومنذ استكنـا
وعنوان بيتي شموخ ذليل
تعال نعيد الشموخ القديم
فلا أنا مصر.. ولا أنت نيل
القصيدة لكل عمر مرايا 2003
نقلاً عن "الأهرام"