فاروق جويدة
يواجه الإعلام المصري فترة عصيبة تبدأ بغياب المصداقية وتنتهي بسقوط المهنية.. وما بين هذا وذاك تسوده حالة من الإرتباك والفوضي امام مجموعة من الأخطاء الجسيمة في الآداء مع غياب القضية وضياع الهدف..
الإعلام المصري فقد الكثير من ثوابته في الفترة الأخيرة امام إغراءات المال والبريق والزعامات الكاذبة واختلال منظومة القيم والأدوار في الشارع المصري.. لم يعد الإعلام رسالة ومسئولية ولكنه تحول الي مصدر للثراء وجمع المال بل والإنتهازية السياسية والفساد الأخلاقي.. ومن يتابع خريطة الإعلام المصري بكل وسائله سوف يجد نفسه امام كارثة حقيقية افقدت هذا الوطن رصيدا ضخما كان الإعلام احد ثوابته ومقوماته.
هناك مجموعة من الأخطاء والخطايا التي سقط فيها الإعلام المصري وللأسف الشديد اننا كثيرا ما تحدثنا عنها وشخصناها ولكن إغراءات المال والبريق والتخويف احيانا كانت سببا في تلك الظواهر السلبية الخطيرة التي يعاني منها الإعلام المصري وهو من اهم واخطر قوانا الناعمة التي قام عليها الدور الثقافي والحضاري المصري سنوات طويلة.
< علي الجانب المهني والأخلاقي اتسم الإعلام المصري دائما بتقديسه للمسئولية الوطنية فكان من اهم المقومات التي حافظت دائما علي الإنتماء الوطني الحقيقي إلا ان هذا الجانب بدأ يتراجع امام المنافسة والصراع الأيدولوجي البغيض والأجندات الخارجية التي تسللت الي هذا القطاع الخطير في مؤسسات الدولة المصرية.. في زمان مضي كانت هناك ضوابط تحكم النشاط الإعلامي من حيث الدور والرسالة ومصادر التمويل والعلاقة مع الآخر وكانت هذه العلاقة علي درجة كبيرة من الحساسية امام الأجهزة المسئولة في الدولة حتي انها كانت تراقب هذه الأنشطة امنيا.. وإذا كنا نعترض علي المتابعة الأمنية فإن الإنفلات يمثل حالة خطيرة خاصة إذا وصلت الأمور الي درجة الإختراق وهو ما يعاني منه الإعلام المصري الآن امام ارتباك مؤسسات الدولة وحالة السيولة التي يعاني منها المجتمع المصري.
< ان الجميع يتحدث عن مصادر التمويل الخارجي التي تسللت للإعلام المصري ولا احد يجرؤ علي ان يفتح هذا الملف.. وهناك صفقات سرية بين مؤسسات محلية ودوائر اجنبية ولا احد استطاع الإقتراب من هذه القضية.. ان الجميع يتحدث عن طابور خامس في الإعلام المصري وجمعيات اهلية مشبوهة وهناك شواهد كثيرة تصل الي درجة الإتهامات بل والجرائم ولا احد يسمع.. فهل هذا خوف من هذه الوسيلة المدمرة التي تسمي الإعلام ام هو غياب الحقائق وان كانت متداولة.
منذ قامت ثورة يناير والشارع المصري يتعرض لغزوات فكرية وإعلامية مخيفة ولم يتوقف احد عند هذه الظواهر بالتحليل او الرفض او الحساب.
لقد تحول الإعلام المصري في احيان كثيرة الي أدوات هدم وتدمير لكل القيم التي قام عليها تاريخ المصريين وقد استهدفت هذه الغزوات العقل المصري بكل تاريخ الوعي فيه والوجدان المصري بكل ثوابته وقيمه ووجدنا انفسنا امام محاولات مستميتة لتسطيح فكر هذا الشعب وتخريب ثوابته وقناعاته.
< منذ قامت ثورة يناير والإعلام المصري يدفع بالشارع المصري دفعا الي عدم الإستقرار وكلما هدأت الأحوال قليلا اشعل النيران وحرك الفتن والضغائن ووجدنا انفسنا من وقت لآخر امام شواهد كثيرة تؤكد ان هناك اياد خفية تعبث في مصير ومستقبل هذا الشعب.. وللأسف الشديد ان الشارع المصري لم ينج من هذه المحاولات بكل تياراته ما بين اليميني واليساري والديني والليبرالي وسيطرت علي الساحة الإعلامية مجموعة من اصحاب المصالح التي اضرت كثيرا بأحد المقومات الأساسية للدولة المصرية وهي الإعلام.
< لقد شارك الإعلام المصري في ثورة يناير وكان من اسباب سقوط النظام ورحيل رموزه ثم شارك في ثورة يونيه وكان سببا في سقوط الإخوان المسلمين ويبدو ان هذا الإعلام بهذه الطريقة تصور انه قادر علي إسقاط كل شئ وان الذي ادخل رئيسين السجن قادر علي ان يجعل الشارع المصري في حالة ارتباك وفوضي لا يفيق منها ابدا.. تصور الإعلام انه بأدواته يستطيع ان يسيطر تماما علي حركة الجماهير وان يحشدها في كل اتجاه واي اتجاه يريد حتي ولو كان الإتجاه الخطأ.. لقد ظهر ذلك بوضوح في موقف الإعلام من بعض القضايا والإجراءات التي تسعي الي تهدئة الشارع المصري واستقراره حيث بدا انه يلعب دورا مريبا يشجع علي استمرار الفوضي.
وقد تولت الفضائيات المصرية هذه المهمة حيث جندت علي شاشاتها فصائل إعلامية تسعي دائما للفتن وإشعال الحرائق وتحول الإعلاميون امام هذه الظاهرة الي زعماء سياسيين يحركون الأحداث ويتصورون انهم قادرون علي قلب الحقائق في اي وقت يشاءون.. حين ارتدي الإعلاميون ادوار الزعماء السياسيين خسر الإعلام اهم ثوابته وهي المصداقية واختلطت الأوراق بين زعماء الإعلام وزعماء السياسة وخسرنا الإثنين معا.. كان من اهم اسباب تراجع المنظومة الإعلامية وفسادها ايضا ان الدولة سحبت يدها تماما من الإعلام.. لقد اصبحت الصحافة القومية بكل تاريخها يتيمة الأب والأم وهي تترنح ما بين خسائرها المالية وعجز قدراتها البشرية وامام اكثر من43 ألف موظف يعملون في التليفزيون واكثر من13 مليار جنيه ديونا غرقت مؤسسات الدولة الإعلامية في ازماتها الداخلية ولم تعد قادرة علي آداء دورها تجاه المجتمع.
علي الجانب الآخر كانت المؤسسات الإعلامية الخاصة بعيدة تماما عن فكر الدولة بما في ذلك المسئولية الوطنية وتحولت في كثير من الأحيان الي ادوات تعمل لحساب اشخاص لهم مصالحهم الخاصة سياسيا وماديا.
وما بين إعلام رسمي تحاصره الديون والقدرات العاجزة وإعلام خاص لم يكن بالشفافية او البراءة التي يتصورها البعض غاب التنسيق تماما بين هذه المؤسسات من حيث الهدف والرسالة وخسرت مصر في مرحلة من اخطر واهم مراحلها جزءا اصيلا من قوتها الناعمة
< ومع فهم خاطئ للديمقراطية بأدواتها واساليبها وثوابتها وجدنا الإعلام المصري يتخبط امام انقسامات حادة في الرؤي والأهداف والمصالح وتحول الصراع بين المؤسسات الإعلامية الي مواجهات حادة حول صفقات الإعلانات والمنافسة الشرسة لجذب القارئ والمشاهد والمعارك السياسية التي تحولت الي معارك فضائية وامام تصفية الحسابات بين نظم ومؤسسات واشخاص تحول النشاط الإعلامي الي معارك حزبية اساءت كثيرا للمشهد السياسي والثقافي والفكري لشعب عريق ومنظومة إعلامية تاريخية وظهرت في الساحة وجوه فرضت نفسها علي الوسائل الإعلامية بصورة دائمة وكانت عبئا كارثيا علي الأخلاقيات والسلوك والمصداقية.
< لقد اغرق المستنقع السياسي الإعلام المصري وجعله يتخلي عن دوره الفكري والثقافي والإبداعي وكان ذلك بداية لظهور اجيال إعلامية لا علاقة لها بالثقافة الحقيقية ووجدت في العراك السياسي وسيلتها للظهور وتحقيق نجاحات غير مؤهلة لها.. ظهرت اجيال من الإعلاميين الذين وجدوا في الإعلام وسيلة للبريق والمال والمصالح ونسيت هذه الأجيال اعلام الفكر والدور والرسالة.
ان اخطر ما يعانيه الإعلام المصري الآن هو السطحية الشديدة في معالجة الواقع المصري بأسبابه وطموحاته ومستقبله البعيد والقريب فقد وجدنا انفسنا امام إعلام لا يتجاوز حدود اللحظة في الفهم والتحليل والدراسة وقد فتح ذلك ابوابا كثيرة لعديمي الموهبة ان يجدوا لأنفسهم فرصا واسعة في هذا المناخ.. وبعد اجيال شيدت هذا الصرح العملاق بفكرها ورؤاها وجدنا انفسنا امام نماذج إعلامية مشوهة تنقصها الرؤي وتغيب عنها المسئولية وتحركها لغة المصالح وامام حالة التشرذم التي يعيشها المجتمع المصري وجد الإعلام المريض فرصته في إشعال المزيد من الفتن بين ابناء الشعب الواحد.
< وقد يتساءل البعض وما هو الحل.. لا شك ان الدولة غابت طويلا وتخلت عن مسئوليتها في دعم الإعلام المصري والمشاركة في تشجيع دوره وتحمل مسئولياته بل ومتابعة انشطته ابتداء بالدعم المادي وانتهاء بالحرص علي دوره الوطني بعيدا عن مبدأ الصفقات والمصالح لابد ان ندرك ان الإعلام ليس فقط نشاطا سياسيا يقوم علي حركة الشارع ويكون رد فعل لها.. ان الإعلام نشاط شامل يعكس رؤي المجتمع واحلامه وطموحاته في الفكر والعدل والثقافة والأمن والتقدم وحين يتحول الي مجرد ابواق سياسية يخسر اهم مقوماته وهو بناء الإنسان وقد انعكس ذلك بصورة واضحة في ازمة الكوادر في الإعلام المصري حيث غاب الإنتماء وغابت قضايا الوطن امام حالة من الصخب والفوضي لم يعد احد يسمع فيها صوت الآخر.
ولا بد ان نعترف ان هناك وسط هذا الصخب والفوضي نماذج مضيئة في الإعلام المصري ولكن مواكب المهرجين والمغامرين والباحثين عن الصفقات قد شوهت الصورة بحيث تحول الي جزء من ازمة المجتمع في حين كان ينبغي ان يقدم لنا الحل.
في الأيام الأخيرة بدأ الحديث عن فوضي الإعلام المصري ولا بد ان نعترف ان اول وسائل العلاج ان نشخص المرض واسبابه.. والإعلام جزء اساسي من محنة الشارع المصري ومن يرصد الشاشات والصحف والنت سوف تطارده روائح كريهة تؤكد ان الإعلام المصري يواجه محنة خطيرة في كوادره وفكره واساليبه ومؤسساته ومصادر تمويله وإذا لم تحاول الدولة انقاذه عليها ان تدفع الثمن وسوف يكون باهظا.
..ويبقي الشعر
وقلنـا كثيرا
وكان المساء حزينـا حزينـا
وطافت علي الصمت كل الحكايا
سنون تخفـت وراء السنين
ومازال قلبي طفـلا بريئـا
يحدق فيك.. ويحبو إليك
كأنـي علي الأمس ماتت خـطايا
تغيرت الأرض في كل شيء
وما زلت أنـت
نقوشـا علي العمر
وشما علي القلـب
ضوءا علي العين
ما زلت أنت بكارة عمري.. شـذا من صبايا
رأينـا الليالي علـي راحتينـا
رمادا من الشـوق طيفـا بعيدا
يثور ويهدأ.. بين الحنايا
فعطرك هذا الذي كان يأتي.. ويسرق نومي
وشعرك هذا الذي كان يهفو.. ويسفك دمي
وصوتـك هذا الذي كان يخـبو..فأشـقي بهمي
وقلنا كثيرا..
وأحسست أن الزمان الذي ضاع منـا
تـجمع في العين حبات دمع..
وأصبح نهرا من الحزن يجري
يسد الطريق..
وأن الدموع التي في المآقي
غدت في عيونك أطياف ضوء
وصارت بقلبي.. بقايا حريق
أكاد أعانق عينيك شوقـا.. وأنت أمامي
وبيني وبينك درب طويل
وخلف المسافات.. جرح عميق
وأحسست أني لأول يوم رجعت..
أردد بعض الحروف
وعاد لساني يحبو قليلا.. وينطق شيئـا
فمنذ سنين.. نسيت الكلام
وقلنـا كثيرا..
وأحسست أنك حين ذهبت
أخذت من العمر كل البريق
فلم يبق في العمر غير الصدأ
وأن دمي تاه بين العروق..
وخاصم نـبضي..
وماذا سيفـعل نبض غريق ؟
وأحسست أنك يوم ارتحلت
أخذت مفاتيح قلـبي
فما عاد يهفو لطيف سواك
وما عاد يسمع إلا نداك
وأنـك حين ارتـحلـت
سرقـت تعاويذ عمري
فصار مباحا.. وصار مشاعا
وأني بعدك بعت الليالي
وفي كل يوم يدور المزاد
أبيع الحنين.. أبيع السنين
وأرجع وحدي.. وبعضي رماد
وأني أصبحت طفـلا صغيرا
تشرد عمرا
وصار لقيطـا علي كل بيت
وصار مشاعا علي كل صدر
وصار خطيئة عمر جبان
وأحسست أنـي تعلمت بعدك
زيف الحديث.. وزيف المشاعر
تساوت علي العين كل الوجوه
وكل العيون.. وكل الضفائر
تساوي علي العين لون الوفاء..
وزيف النقاء..
ودم الضحايا.. ودم السجائر
تساوت علي القلب كل الحكايا
وقلنا كثيرا
وعدت أفتش في مقلتيك
وألقي رحالي علي شاطئيك
وأبحرت.. أبحرت في مقلتيك
لعلي أري خلف هذي الشواطيء
وجهي القديم الذي ضاع منـي..
وفتشت عنـه السنين الطوال
لقد ضاع مني منذ ارتحلت
رأيتك وجهي الذي ضاع يوما
بنفس الملامح.. نفس البراءة
نفـس البكارة.. نفس السؤال
وقلنا كثيرا.. وعنـد الصباح
رأيتـك في الضوء ذرات شوق
أبت أن تضيع
لمحتك في الصبح أيام طهر
تراجع فيها نداء الخطايا..
وزهرة عمر أبت أن تزف لغير الربيع
فما زلت أنت الزمان الجميل
وكان الوداع هو المستحيل
فيا شهرزاد التي فارقــتني
وألقت علي الصبح بعض الرماد
تري هل قنعت بطيف الحكايا ؟
تري هل سئمت الحديث المعاد ؟
وقلنا كثيرا.. وعند الصباح
رجعت وحيدا ألملم بعضي
وأجمع وجها تناثر منـي
وفوق المقاعد تجري دمايا
وعدت أسائل عنك المقاهي
وأسأل رواد هذا المكان
فيصفع وجهي حزن كئيب..
ولم يبق في الصمت إلا ندايا
فما زال عطرك في كل شيء
وما زال وجهك خلف الجدار
وبين المقاعد.. فوق المرايا
تري كان حلما ؟
علي كل ركن تئن البقايا
فما كنت أنت سوي شهرزاد
وما كان عمري.. غير الحكايا
قصيدة ما بعد الليلة الأخيرة سنة 1990
نقلاً عن "الأهرام"