فاروق جويدة
عندى مجموعة اسباب موضوعية تجعلنى اختار المشير السيسى رئيسا لمصر .. هذه الأسباب التى تجعلنى اختار السيسى أبعد ما تكون عن دائرة العواطف .. فليس هذا زمن العواطف ..وهى أبعد ما تكون عن سيرك النفاق فلم يكن طريقى يوما.. وقبل هذا هى أبعد ما تكون عن مواكب الطموحات والأمانى الشخصية فقد اسقطت هذا الجانب من حياتى وأنتم شاهدون ..
عندى اسباب سوف اضعها امامكم فإن كانت على حق فاسمعوها، وان وجدتم فيها غير ذلك فالخلاف لا يفسد للود قضية ..
< اول هذه الأسباب ان هذا الرجل ورفاقه فى القوات المسلحة قد التزموا طوال عام كامل بكل اخلاقيات ومسئوليات الجندية المصرية بتاريخها العريق فى الوفاء والالتزام واحترام المسئولية .. كانوا الجنود الأمناء الذين تلقوا التعليمات ونفذوها بكل شرف يوم ان زارهم الرئيس السابق فى مواقعهم وقدموا له كل مظاهر الولاء كرئيس للدولة، وحين شارك فى احتفالات اكتوبر ـ وهى تاجهم الأكبر ـ تجرعوا مرارة مشهد مؤلم وهو يعانق قاتلى صاحب قرار العبور انور السادات .. وحين دعت القوات المسلحة القوى السياسية فى مصر فى لقاء لجمع الشمل وتوحيد الكلمة للخروج من هذا المأزق الرهيب كانت الدعوة صادقة وحريصة على تجاوز اسباب الفتنة، وقبل ميعاد اللقاء وفى الدقائق الأخيرة قررت مؤسسة الرئاسة إلغاء اللقاء.
بعد ذلك جرت مياه كثيرة فى النيل وتراكمت على شواطئه مجموعة من الخطايا والأخطاء فى دائرة القرار كان أخطرها اننا أمام رئيس لا يسمع ولا يقدر ولا يحسب نتائج الأشياء، وكانت النتيجة نصائح من السيسى وقادة الجيش انتقلت الى دائرة التوجيهات ثم التحذيرات ثم ما يمكن ان يجىء بعد ذلك .. هذه المواقف تؤكد ان السيسى الضابط والجندى فى جيش مصر كان ملتزما بشرف امام قيادته ولم يتخل عن مسئولية المقاتل من حيث المصداقية والأمانة .
< السبب الثانى : لم يكن احد فى مصر يعلم حجم المأساة التى وصلت اليها الأحوال فى سيناء.. كانت قوات من الجيش تنتشر هنا او هناك وكانت عصابات إجرامية تقتل من حين لآخر عددا من جنودنا، وكان الرأى العام يشعر بالغضب امام ردود افعال باهتة من المسئولين فى الدولة .. بدأت الكارثة بعدد من جنودنا، يقتلون فى رمضان ساعة الإفطار ثم باختطاف آخرين وعودتهم دون ان يعلم احد لماذا اختطفوا وكيف عادوا .. لم يكن احد على علم بما يحدث فى سيناء غير ان قوات الجيش كانت قليلة والمواجهة صعبة وكان السؤال: المواجهة مع من؟! .. كان المشير السيسى بحكم منصبه السابق واللاحق هو الذى يعلم ماذا يجرى فى سيناء .. وتحركت قوات الجيش بكل معداتها معلنة الحرب على الإرهاب لأن سيناء خلال اقل من عام قد تحولت الى معقل للإرهابيين الذين افرج عنهم الرئيس السابق فى قرارات عفو غريبة ومريبة لا تتناسب مع قدسية المسئولية وحرمة الوطن .. دخل الجيش المصرى معارك حقيقية فى سيناء واستطاع ان يستردها مرة اخرى من ايدى الإرهاب بعد ان استردها من قبل من الاحتلال الإسرائيلى .. كل الحقائق تؤكد ان سيناء كانت فى خطر واننا كنا امام مؤامرة كبرى بدأت بحكم الإخوان والإفراج عن زعماء الإرهاب وتوجيههم الى سيناء حين اعلنوا الحرب على الدولة المصرية، ولولا الجيش المصرى ووعى وخبرة السيسى وقيادات الجيش لكانت سيناء الآن تعيش محنة كبرى .. سوف يبقى تحرير سيناء للمرة الثانية وساما على صدر الجيش المصرى وموقف قياداته.
< السبب الثالث : حين خرج الشعب المصرى يوم 30 يونية مؤيدا لدعوة المشير السيسى لإسترداد مصر كانت الدولة المصرية قد وصلت الى منزلق تاريخى يهدد بسقوطها .. كان الشارع قد انقسم ليس بين مؤيدين ومعارضين ولكن بين مؤمنين وكفار، وكانت صيحات الإرهاب على المنابر وشاشات الفضائيات دعوات للقتال والتخلص من كفار مصر والوقوف لدعم سلطة الإيمان ممثلة فى رئيس الدولة وحكومته وحزبه ورفضهم الكامل لأى حوار مع القوى السياسية الأخرى لأنها كافرة .. كل هذه الشواهد حركت مخاوف المصريين وشعر كل مصرى بأنه مهدد فى دينه وبيته وامنه ورزقه وكانت صور زعماء الإرهاب وهم يتوعدون ويهددون خطيئة كبرى فى حق الإسلام والمسلمين وفى حق مصر دار التدين ومهبط التسامح .. كان خوف المصريين شديدا على دينهم الحقيقى.. وكان فزعهم على وطن مهدد بالانقسام ومؤسسات لها تاريخ وجذور يمكن ان تتهاوى امام قلاع الكراهية العمياء والغباء المطلق .. وكانت الصورة مخيفة للغاية امام دولة مهددة بالسقوط امام رئيس سيطرت عليه عصابة تتاجر وتحكم باسم الدين، وكانت الأزمة الحقيقية انه لم يعد يسمع لصوت عاقل او رأى رشيد وان الغوغائية التى اطاحت بسلطة القرار قد ابعدته تماما عن جميع القوى السياسية فى مصر بعد ان تحول المصريون الى فصائل وكتائب وميليشيات .. لم يكن امام السيسى المواطن المصرى غير ان يطلب من الشعب ان ينتفض رافضا هذا الأسلوب فى الحكم لأنه لا يتناسب مع مصر دولة الحضارات والتاريخ والبشر وان الوطن مهدد فى كل شئ فى مؤسساته وتاريخه ومستقبله وحاضره وان الصورة قد وصلت الى اسوأ مراحلها. وكان الخروج العظيم .. لم يكن خروج المصريين يوم 30 يونية من اجل التعبير عن رفض او خوف او مقاومة لواقع مؤلم ولكنه الكبرياء المصرى الذى رفض تقسيم وطن وإسقاط دولة وإهانة شعب وهذا يحسب للسيسى .
< السبب الرابع : برغم كل ما حدث بعد رحيل الإخوان عن السلطة واستعادة الشعب المصرى الكثير من إرادته فإن الموقف مازال خطيرا ويتطلب الحذر بل ويفرض علينا الخوف .. ان المؤكد ان مصر لم تسترد حتى الآن عافيتها بعد ثورتين ورحيل نظامين وسقوط رئيسين كل هذا فى ثلاث سنوات .. عمليات جراحية كبرى تعرضت لها مصر .. ومازالت فى دور النقاهة .. مازال الاستقرار حلما .. ومازال الأمن صعبا .. والاقتصاد يعانى.. واخلاق الناس ساءت والانقسام فى الشارع يهدد كل شىء .. والإعلام يبيع الوطن ويشتريه كل ليلة والأيادى الخارجية تعبث فى كل شىء ابتداء بمياه النيل حياة المصريين وانتهاء بالقتل والإرهاب الذى اسقط الآلاف من ابناء مصر الشرفاء والأبرياء .. ان مصر ليست آمنة .. ومستقبلها محاط بالمخاطر .. وحاضرها يحتاج الى يد تبنى واخرى تحمى.. ففى ظل سلطة موزعة على فصائل سياسية او فكرية وفى ظل نخبة تحتاج الى إعادة بناء وفى ظل اجيال تحتاج الى ثورة فى الفكر والأخلاق والسلوك يجب ان تعود مصر لتجد نفسها فى يد قوية قادرة على حمايتها ..
إن وراء السيسى تاريخا من المعرفة حول اشياء كثيرة فى مصر الوطن .. هو ينتمى لأعرق مؤسسات هذه الدولة وهى الجيش وبقى طوال سنوات عمله فى اخطر اجهزة هذه المؤسسة وهى المخابرات العسكرية ولديها كل اسرار هذا الوطن من رغيف الخبز حتى آخر منسوب للنيل فى اسوان .. وهو بحكم الرصيد يملك ثلاث معارك لن تنسى: معركته ضد محاولات إسقاط الدولة المصرية فى 30 يونيه وقد انقذها، ومعركته ضد الإرهاب فى سيناء وقد استعادها .. ومعركته فى صموده امام جرائم الإخوان ومؤامرات الأمريكان والطابور الخامس، وقبل هذا كله معركته الأكبر لجمع شمل المصريين بعد رحلة انقسامات بين ابناء الوطن الواحد اوشكت ان تسقط اركان الدولة المصرية .
من حيث المواقف والتاريخ والخبرات فقد قدم السيسى مسوغات كثيرة امام المصريين تشفع له وهى تكفيه، ولو انه خرج الآن تماما من المشهد المصرى لاحتل مكانة بارزة فى حياة المصريين إنسانا وفى تاريخ مصر الحديثة دورا وفى كل الحالات هو يمثل لحظة مضيئة فى كبرياء وحماية هذا الوطن.
< السبب الخامس : لا بد ان نعترف بأن الجيش هو آخر ما بقى من المؤسسات الكبرى فى مصر بعد ان تهاوت وسقطت مؤسسات ورموز وادوار .. قد اشعر بالخجل وانا اعترف بأن عقل مصر فى محنة وان نخبتها التاريخية قد تجرفت وتحتاج زمنا طويلا لكى تستعيد دورها وتسترد عنفوانها .. هناك مؤسسات تخربت فى الثقافة والإعلام والجامعات والتعليم والإدارة والتخطيط وحتى ما كان لدينا من آثار وحضارات وقيم تشوهت فى كثير من روافدها، حتى اخلاق الناس تغيرت وطموحاتهم تشوهت .. ان هذا يعنى ان الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة الآن على حماية مصر، وهنا لا افصل الجيش عن قوات الشرطة.. وفى تقديرى ان قضية الأمن ستكون مهمة السيسى الأولى ان يعيد الأمن للشارع المصرى وهو بحكم خبرته ورصيده وتجربته يستطيع ذلك والجيش سوف يوفر له كل الإمكانيات حين يبدأ مشواره مع السلطة .
إن الجيش لن يترك السيسى يغرق فى بحار الأزمات المصرية اليومية وسوف يقدم له من الخبرات والمساعدات والمواقف ما يمهد له طرق النجاح .. وسوف يقوى السيسى بدعم الشارع المصرى وتأييده وهذا يعنى انه سوف يجمع اهم قوتين معه فى سلطة القرار وهما دعم شعبى حقيقى ودعم من القوات المسلحة بحكم الدور والانتماء .. على جانب آخر فإن السيسى قدم تجربة فريدة ناجحة فى تجديد شباب الجيش المصرى وما احوج مصر الى من يجدد شبابها فقد شاخت وترهلت وجاء الوقت لتسترد عافيتها.
امام المشير السيسى ثلاثة محاذير اسأل الله ان يقيه شرها :
< لا تأمن من باعوا هذا الشعب يوما ونهبوا ثرواته واستباحوا حرياته وشوهوا فكره وثوابت دينه .. اقصد لا تأمن لفلول نظامين خلعهما الشعب بكامل إرادته، وعليك ان تبدأ مشوارا طويلا لبناء مصر فهى ليست فقيرة فى الثروات واغلى ما فيها البشر ولكن السفه والظلم والطغيان جعلها تمد الأيادى، والجهل والفكر المشوه جعلها مرتعا للفوضى والغوغائية .. وما بين غوغائية الفكر والتدين الكاذب واشباح الفساد والنهب والفقر سقط هذا الشعب المسكين فريسة نظم لا ترحم بين الوطنى والإخوان وكلاهما لا مستقبل له فى هذا الوطن.
< لا تسمع مواكب النفاق وحاول ان تشاهد شرائط الماضى لتعلم ان هناك انواعا من البشر ادمنت الرقص على كل الحبال والإتجار بكل الأفكار والمواقف والأكل على كل الموائد وهى لا تجيد إلا لغة الطبول على باب كل سلطان.
< اعلم انك إنسان تخاف الله، والوطن وديعة وسلطة القرار امانة.. وحين نلقى الله سوف يسألنا .. هل عدلتم بين الناس؟ وعليك ان تهتدى بسيرة الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين سأل عنه رسول كسرى ورأه ينام بجانب جدار فقال كلمته الشهيرة : حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر .
وهذا هو العدل .. وفقك الله من اجل مصر.
..ويبقى الشعر
لماذا أراكِ على كلِّ شىء بقايا .. بقايا ؟
إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفـًا ..
وينسابُ عطـُركِ بين الحنايا ؟
لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ
فأجرى إليكِ .. وتأبى خُطايا ؟
وكم كنتُ أهربُ كى لا أراكِ
فألقاكِ نبضـًا سرى فى دمايا
فكيف النجومُ هوت فى الترابِ
وكيف العبير غدا .. كالشظايا ؟
عيونك كانت لعمرى صلاة ً ..
فكيف الصلاةُ غدت .. كالخطايا ؟
لماذا أراكِ وملءُ عُيونى دموعُ الوداعْ ؟
لماذا أراكِ وقد صرتِ شيئـًا
بعيدًا .. بعيدًا .. توارى .. وضاعْ ؟
تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ
أحسُّـك نبضًا
وألقاك دفئـًا
وأشعرُ بعدكِ .. أنى الضياعْ
إذا ما بكيتُ أراكِ ابتسامة
وإن ضاق دربى أراكِ السلامة
وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ
تضىء عيونـُكِ .. خلف الغمامة
لماذا أراكِ على كل شىءٍ
كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ
كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ
وأنى خـُلـِقـْتُ لهذا السفرْ ..
إذا كنتُ أهرب منكِ .. إليكِ
فقولى بربكِ .. أين المفـْر ؟!
من قصيدة بقايا بقايا سنة 1983
"الأهرام"