لا أعتقد أن قضية التعليم فى مصر قد لاقت ما ينبغي من التوضيح والشرح والحوار، فقد هبطت على رءوس الناس دون مقدمات ولم نسمع عن دائرة حوار حول خطة الإصلاح سواء فى أهدافها أو مناهجها أو زمانها .. ولا ادعى اننى متخصص فى برامج التعليم وليس لى فى الكثير من دراساته ومناهجه فانا لا أدعى اننى على علم بمناهج مثل الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو التكنولوجيا الحديثة باستثناء التليفون المحمول ولست خبيرا فيه ولكن إذا كانت هذه الأشياء من حق الخبراء المسئولين فهناك جزء يمكن أن يدور حوله الحوار ويتلخص فى ثلاث قضايا تتعلق بالهوية والانتماء وعلاقة الإنسان بوطنه وتاريخه وثقافته ولغته ودينه..
هنا يحق لنا أن نتساءل عن ثلاث مواد دراسية فى مناهج التعليم المختلفة ومدى المساحة التى حصلت عليها فى خطة الإصلاح الجديدة التى بدأ تنفيذها ..
< السؤال الأول الذي ينبغي أن تجيب عنه سلطة القرار: أين اللغة العربية فى مناهج التعليم التى وضعتها الوزارة؟ هل أخذت من الاهتمام ما ينبغي أن يكون؟.. إننا نعلم أن هناك إهمالا متعمدا للغة العربية ليس فقط فى المناهج التعليمية ولكن فى الاستخدام العادي فى جوانب الحياة.. إن جميع المحلات والمطاعم والمنتجعات والمستشفيات والمدارس لا تستخدم اللغة العربية حتى إن كل الأحاديث واللقاءات وكلمات المسئولين لا علاقة لها باللغة العربية وكثيراً ما أبحث عن مسئول يتحدث بلغة عربية سليمة ولا أجده وما أكثر الملايين الذين يتخرجون فى المدارس والجامعات ولا يجيدون لغتهم وأصبحت العامية هى حديث الناس ومعاركهم وكتاباتهم حتى إنها تستخدم فى كتابة القصص والروايات والمقالات والأشعار وأصبح من الصعب أن تجد عملا فنيا عربيا رصينا فى مسلسل أو أغنية أو مسرحية..
هنا يجب أن نتساءل عن مكانة اللغة العربية فى مناهج التعليم خاصة فى المدارس الأجنبية وهى لا تعترف باللغة العربية وقد تخرج منها آلاف التلاميذ لا يتحدثون اللغة العربية لا الفصحى ولا العامية .. إن الشىء المؤكد أننا أمام محنة تاريخية أن تصبح اللغة العربية غريبة ومطاردة فى أوطانها وبين شعوبها ..
فى السنوات الماضية لم يهتم احد بقضية اللغة العربية فى المدارس وحتى الأسرة وأهملناها فى الأحاديث العادية وأصبحت كل أسرة تفخر بأن أبناءها لا يتعلمون اللغة العربية ولكن ينطقون اللغات الأجنبية وكأن لغتهم الأم عار يتبرءون منه..
هنا ينبغي أن نطمئن على أن اللغة العربية تدخل فى جوهر وأساس عملية إصلاح التعليم حتى لا نجد أنفسنا بعد سنوات أننا تحولنا إلى عبيد فى يد معدات حديثة شوهت لغتنا وجذورنا وثوابتنا .. إذا كان تطوير برامج التعليم مجرد استخدام للتكنولوجيا الحديثة ونظريات الرياضة والكيمياء والفيزياء والمواد العلمية مع إهدار كامل للغة العربية بنصوصها وثوابتها ونطقها وسلاستها فإن ذلك يعنى إننا دخلنا فى سرداب مظلم لن نخرج منه أبدا.. إن اللغة العربية ليست لغة المصريين فقط ولكنها لغة مئات الملايين من الشعوب العربية وكانت مصر دائما حارسة على هذه اللغة بكل تراثها، بل إنها من خلال الفنون الرفيعة والأزهر الشريف وجامعات مصر العريقة كانت أهم حصون هذه اللغة وإذا انهارت فى مصر فقل عليها السلام..
إن اللغة العربية ليست وسيلة نطق أو تعبير أو كلام، إنها ثقافة أمة وتاريخ حضارة وحين نفرط فيها فإننا نفرط فى أعمق ثوابتنا واخطر مكوناتنا الفكرية ولهذا فإن برامج التعليم لابد أن تضع أولوية وأهمية خاصة للغة العربية وهى الآن تواجه تحديات صارخة على كل المستويات تعليما وثقافة ونطقا وتراثا وجذوراً وقبل هذا كله فإنها تتعرض لعملية تشويه مقصودة فى ظل مؤامرة تسعى إلى تدمير تراث هذه الأمة لاينبغي أن ننسى فى زحام المشاكل والمحن والأزمات أنها لغة القرآن الكريم دستور المسلمين وأقدس ثوابتهم .. كل ما فى الأمر أننا نريد من خبراء التعليم الذين وضعوا خطط مستقبل الأجيال المقبلة أن نطمئن على لغتنا وأن نحافظ عليها، لأن اللغة العربية إذا ماتت فى مصر فلا عزاء لها بعد ذلك..
< منذ سنوات ليست بعيدة دارت فى مجلس الشعب فكرة غريبة ومريبة هدفها إلغاء مادة التاريخ واذكر يومها اننى تصديت لهذه الدعوة وقلت إن تاريخ مصر يدرس فى مناهج التعليم فى معظم دول العالم، لأنها مهد الحضارات وفى شواهد كثيرة لانجازات حضارية أضاءت للبشرية طرقا كثيرة فى العلوم والطب والعمارة والأديان.. وتراجع مجلس الشعب عن هذا الاقتراح المريب.. وفى ظل عملية إصلاح التعليم فى مصر أتمنى أن نطمئن على تاريخنا فى ذاكرة أبنائنا، لأن لدينا بالفعل صفحات مشرفة فى تاريخ الإنسانية.. إن الذين لا يملكون تاريخا يصنعون لأنفسهم القصص والحكايات فما بالك بأرض فى كل شبر فيها تراث وتاريخ وحضارة..
إن اغتيال التاريخ من أكثر الأعمال الإجرامية فى حياة الشعوب ولقد تشوهت صفحات كثيرة من تاريخ مصر ما بين الاحتلال والاستعمار والفوضى ولا بد أن ننقى هذه الصفحات ونقدم أجمل ما فيها للأجيال المقبلة بعيدا عن الانقسامات والكراهية والأحقاد التى كانت سببا فى تجاهل البعض وإنكار البعض الآخر وتحول تاريخنا إلى صفحات غامضة لا احد يعرف من كتبها ومن سطر أحداثها..
مازلت اذكر أننا درسنا التاريخ دراسة واعية رغم كل عمليات التزييف التى تعرض لها ولكن المطلوب الآن أن نكتب التاريخ فى مدارسنا بكل الصدق والموضوعية والأمانة، بحيث لا يخرج علينا من وقت لآخر من يشوه الأحداث ويرمى الناس بالباطل.. نريد تاريخنا خاليا من الشوائب والصراعات والانقسامات والفتن، لأن فى حياة المصريين لحظات كثيرة مضيئة وشخصيات عظيمة ورموز تستحق أن نقف أمامها بكل الإجلال والتعظيم..
لم نعرف ما هو موقع التاريخ فى مناهجنا الجديدة؟ وأين توقف؟ وما هى الرموز التى أسقطها ودخل بها فى سراديب النسيان؟ إن التاريخ حق لأجيال قادمة، أن تعرف الحقائق وألا تقع فريسة التحايل والغموض وسوء النوايا.. نريد أن نطمئن على ذاكرة أبنائنا ونحن نروى لهم الأحداث بكل الدقة والشفافية.
فى مناهج التعليم التى عشناها درسنا التاريخ الفرعوني والتاريخ القبطي والتاريخ الإسلامي ثم تاريخ أوروبا وثورات الغرب واهم رموز الحضارة فيه وفى مراحل أخرى درسنا تاريخ مصر الحديث فى فترة العشرينيات مرورا على أسرة محمد على وإن تدخلت السياسة وشوهت الكثير من تاريخ الأسرة العلوية..
لابد أن نطمئن على ذاكرة أجيالنا المقبلة وأنها لم تخضع لعمليات غسل مخ أو تشويه من هنا أو هناك وأن نضع التاريخ فى أيدي أمينة وان نخلصه من الخزعبلات والأطماع وسرقة الأدوار وهى عادة مصرية قديمة.
< بقي من هذه الثلاثية أهم محاورها وهو الدين وكنت قد سمعت أفكارا كثيرة عن اتجاه إلى إلغاء مادة الدين فى الدراسة واستبدل الأخلاق بها أو إصدار كتاب يجمع العقيدتين الإسلامية والمسيحية وهذا تفكير خاطئ، لأن كل عقيدة لابد أن تحافظ على ثوابتها ومناطق الخلاف فيها وهى كثيرة، إن إلغاء مادة الدين جريمة من الوزن الثقيل لو فكر فيها مسئول أو صاحب قرار، لأن التلميذ فى مادة الدين يحفظ بعض آيات القرآن الكريم أو الإنجيل ويعرف العبادات من الصلاة أو الصوم أو الزكاة وهو حين يذهب إلى المسجد أو الكنيسة لابد أن يتعلم فروض الصلاة سواء كان مسلماً أو مسيحيا.. وهناك قصار السور التى يحفظها ويصلى بها وهناك أيضا الرموز التى ارتبطت بكل عقيدة سواء فى الإسلام أو المسيحية..
< هنا يمكن أن يكون لقضية الإصلاح الدينى دور فى اختيار مناهج دينية تدعو للحوار والأخوة والمواطنة وهى أدوات لها فى كل الأديان من الثوابت والقصص والرموز ما يدعو إلى المحبة بين أبناء الوطن الواحد، أما إذا كانت هناك توجهات لإعداد كتب عن الأخلاق أو كتب موحدة عن الإسلام والمسيحية فهذه دعوات لن يرفضها أحد، لأن غاية الأديان السماوية هى إسعاد البشر وتأكيد الأخوة والمحبة والحوار، إن التلاميذ فى المدارس لابد أن يكونوا على علم بأصول دينهم وهذا لن يتوافر إلا من خلال منهج دراسي يضع أسسا للتدين الصحيح بعيدا عن دعوات القتل والإرهاب ويجب إلا نترك الأجيال المقبلة تقع فريسة للتطرف أو الفكر المريض.. ولن يكون ذلك إلا بالدين الصحيح.. إن إصلاح الخطاب الدينى يبدأ من تلاميذ المدارس وينتهي عند أصحاب الرؤى والأفكار، لكن نقطة البداية الصحيحة أن نعرف ديننا الحقيقي..
لا أدري لماذا شغلتني كثيرا هذه الثلاثية اللغة العربية والتاريخ والدين، هل لأنها الثوابت التى تقوم عليها قضايا الانتماء أم لأننا فى زحمة الصراعات والانقسامات يمكن أن نلقى مخاطر كثيرة على هذه الثلاثية وهى أساس بناء الأمم والشعوب فلا ثقافة بغير لغة ولا حصانة دون التاريخ ولا انتماء دون عقيدة فى وطن كان مهدا للأديان..
..ويبقى الشعر
انتزعُ زمانكِ منْ زَمنِي
ينشَطرُ العُمرْ
تنزِفُ في صَدْري الأيام
تُصبحُ طوفـَانَـا يُغرقـُني
ينشَطرُ العالمُ من حوْلي
وجهُ الأيام ِ.. بِلاَ عينيْن
رأسُ التاريخِ .. بلا قدَمينْ
تنقسمُ الشمسُ إلى نصفينْ
يذوبُ الضوءُ وراءَ الأُفقِ
تصيرُ الشمسُ بغير شعاعْ
ينقسمُ الليلُ إلى لَونينْ
الأسْودُ يعصفُ بالألوانْ
الأبيضُ يسقُطُ حتَّى القاعْ
ويقُولُ الناسُ دُموعَ وداعْ ..
قصيدة «سيجئ زمان الأحياء» سنة1986
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع