لم يترك الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الفترة الأخيرة مناسبة إلا وتحدث فيها عن قضية مهمة تقف وراء الكثير من التحديات التى تواجهها مصر وهى قضية الوعي.. وهذه القضية لا تعنى فقط الوعى السياسى، ولكنها تضم عناصر كثيرة دينية وثقافية وأخلاقية وقد ارتبطت بقضايا أخرى على نفس السياق، وأن كانت تكمل بعضها هناك قضايا لا تحتمل التأجيل، لأنها تمثل ضرورة من الضرورات الأساسية فى حياة المجتمعات ومن الخطأ أن نضع أقدامنا على أول الطريق ثم نتوقف ولا نكمل أى شىء.. والتأجيل قد يصل بنا إلى مناطق أخرى أكثر وهى الإهمال.. أن تبنى عمارة ولا تكملها فهذا مال ضائع والأرض خالية أفضل منها وأكثر قيمة كما أن للأماكن الخالية أضرارا كبيرة..
عندى ثلاث قضايا لا أدرى لماذا توقفت بعد أن شهدت بداية جادة وواعدة.. ولا أجد على الإطلاق مبررا لأن نضيفها إلى مؤجلات كثيرة فى حياتنا..
> منذ فترة اتخذت الدولة عدة قرارات تجاه ثقافة الإرهاب وكان هناك إجماع على أن الإرهاب ليس فقط ظاهرة أمنية تحتاج إلى الجيش والشرطة وهو ما يحدث الآن ومنذ سنوات ونحن نواجه حشوده فى سيناء وعلى امتداد الأراضى المصرية بكل حدودها ولقد حققت المواجهة الأمنية نتائج مذهلة حتى خفت تقريبا العمليات الإرهابية فى أكثر من مكان رغم عمليات التسلل التى تشهدها حدود مصر من خلال الهاربين من داعش وتوابعها فى سوريا والعراق وليبيا وكلها جبهات مازالت مشتعلة ومازال الهاربون يبحثون عن مناطق تؤيهم..
> كانت المواجهات الأمنية للجيش والشرطة من أهم واخطر المواجهات التى كسرت شوكة الإرهاب ودمرت الكثير من حشوده وأسلحته وأماكن تواجده وبقدر ما كانت المواجهة الأمنية حاسمة بقدر ما تأجلت المواجهات الفكرية والثقافية لأن اخطر ما فى الإرهاب جذوره وقناعاته وثوابته التى يقوم عليها.. تأكيدا لأهمية هذه القضية كان تشكيل المجلس الأعلى لمواجهة الإرهاب والتطرف وكان برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسى وعضوية كبار المسئولين فى الدولة بما فيهم رئيس مجلس الشعب ورئيس الحكومة وعدد من الوزارات ونخبة من الشخصيات العامة من أهل الفكر والثقافة وللأسف الشديد أن هذا المجلس اجتمع مرة واحدة وانتهى دوره وتم تشكيل مجلس آخر لم يجتمع حتى الآن.. إن الجانب الفكرى والثقافى فى قضية الإرهاب هو أخطر ما فيها لأن له جذورا امتدت فى المساجد والزوايا والجامعات والنقابات المهنية وهذه الجذور لم تنبت بين يوم وليلة، ولكنها أخذت فترات طويلة من عمر هذا المجتمع حين سيطرت بعض القيادات الدينية المتطرفة على عقول شبابنا فى ظل غياب كامل لدور الدولة السياسى والدينى والأمني.. لقد قامت ظاهرة الإرهاب على مؤسسات نشيطة ومؤثرة واستطاعت أن تملأ فراغا سياسيا واسعا فى مواقع كثيرة فى الدولة حين أهملت الدولة الجانب السياسى فى الشارع المصرى وتركت الشباب لهذه الظواهر الغريبة التى جندت منهم أعدادا كبيرة تحولت من الفكر إلى التطرف إلى الإرهاب والقتل..
> كان ينبغى من البداية ومع المواجهات الأمنية أن تكون هناك مواجهات فكرية أولا لتعديل مسار العقول التى اقتحمتها أفكار الإرهاب وتطهيرها وثانيا وقف تسلل فكر الإرهاب إلى جموع أخرى من الشباب، وثالثا البحث عن مصادر هذا الفكر ومواجهتها فى الجامعات والمؤسسات التعليمية والدينية والمساجد والنقابات المهنية بهدف الترشيد والرعاية.. وأن تكون هناك متابعة بكل الأساليب لما يحدث بين شبابنا من أدوار مشبوهة لهذه التيارات الغامضة..
> إن الأمر يتطلب أيضا قدرا من الانفتاح السياسى يتيح للشباب التعبير عن آرائهم ومواقفهم ورؤيتهم للحياة والأشياء.. إن المناخ السياسى المنغلق هو الذى فتح الأبواب للأفكار الشاذة بما فيها فكر الإرهاب وأساليبه وبحثه عن السلطة.. من هنا لابد من البدء فى هذه المواجهة الفكرية مع حشود الإرهاب، وهناك خبرات كثيرة فى هذا المجال، كما أن هناك ملفات واسعة لدى المؤسسات الأمنية والدينية والتعليمية حول أساليب مواجهة هذا الفكر لأن المعركة الأمنية وهى تتم بنجاح تحتاج إلى مواجهة فكرية..
> القضية الثانية التى بدأناها بحماس شديد هى إصلاح الخطاب الدينى ولا شك أن القضية تعثرت كثيرا أمام خلافات حادة فى وجهات النظر وصلت إلى درجة تكسير النظام وهذا شىء يتنافى تماما مع قدسية القضية وأمانة الحوار..
> حين طرح الرئيس عبد الفتاح السيسى هذه القضية على الرأى العام كضرورة دينية وفكرية هدفها تأكيد وسطية الإسلام أمام تيارات كثيرة استغلت الدين استغلالا سيئا وحولته إلى أطماع سياسية.. وترك الرئيس القضية لأصحاب الشأن من العلماء والمفكرين وأصحاب الرأى، وفى المقدمة الأزهر الشريف والجامعات والمؤسسات الفكرية والدينية.. بدأ الحوار حول القضية على استحياء شديد، ولكن البعض سرعان ما استغل الفرصة ليهاجم الأزهر وشيخه الجليل د.أحمد الطيب وصمت الرجل كثيرا وهو يتلقى السهام من هنا وهناك وللأسف الشديد إن الإعلام فى هذه القضية لعب دورا مشبوها حين فتح قنواته لكل من هب ودب يتحدث فى الإسلام ويشوه رموزه وانهالت على ثوابت الدين دعوات كثيرة مضللة وجدتها فرصة لتنفيذ مخططات قديمة لتشويه صورة الإسلام.. وتحولت القضية من الحوار الهادئ الذى يتسم بالعقل والحكمة إلى مساجلات بين الطرفين ووقف الأزهر بعيدا عن هذا السجال وأصدر مجموعة من الوثائق التاريخية التى تؤكد الحرص على ثوابت الإسلام وانه لا يتعارض مع الحوار والرأى الآخر وحرية العقل والتفكير.. ولا شك أن القضية بدأت بداية طيبة وانتهت إلى معارك لا تليق خاصة أن البعض دخل الساحة وهو غير مؤهل لهذه المهمة علميا ودينيا وحتى أخلاقيا..
> يمكن أن نقول إن قضية إصلاح الخطاب الدينى قد توقف الحوار حولها وربما توقفت أيضا كل توابعها فقد كان ينبغى أن تعلو الأصوات العاقلة وتضع من الضوابط ما يحقق الهدف منها وهو إظهار سماحة الإسلام ووسطيته وثوابته ولكن ذلك كله لم يتحقق حتى وان أصدرت المؤسسات الدينية بعض كتبها أو فتاواها أو حاولت نقل الصورة الحقيقية للإسلام للعالم كله..
> كان ينبغى أن يكون الحوار حول قضية الخطاب الدينى بين العلماء والمفكرين وأن يجرى ذلك فى غرف مغلقة ثم بعد ذلك تستقر الآراء وتخرج إلى الناس بوعى وإيمان وحكمة، ولكن المناخ العام لم يعد يسمح بالحوار الجاد والرؤى العميقة وتحول إلى صراخ وضجيج افسد على القضية قدسيتها وترك الساحة للمغامرين والمهرجين وأصحاب المصالح.. إن الحل عندى أن تعود القضية إلى بدايتها، لأنها بعد سنوات من الصراخ لم تصل إلى شىء ويجلس حكماء هذا الوطن مع أنفسهم وكل يقول ما عنده بما يرضى الله ويحرص على هذا الدين ويحمى مقدسات الوطن ومؤسساته العريقة..
> القضية الثالثة عمرها الآن تجاوز مائة عام لأنها كانت احد بنود دستور 1923 وفى مادته 25 يقول «تلتزم الدولة بوضع خطة للقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار وتلتزم بوضع آليات تنفيذها بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، وذلك وفق خطة محددة» إن الغريب فى الأمر أن ما جاء فى دستور 23 حول قضية الأمية قد تكرر فى كل الدساتير التى جاءت بعده ومازالت قضية الأمية واحدة من أخطر مظاهر التخلف فى المجتمع المصرى فهى تزيد على 20%بين الرجال و33%بين النساء أى أن فى مصر أكثر من 40 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون رغم أن هناك دولا كثيرة فى العالم احتفلت بوفاة آخر أمى فيها.. إن قضية الأمية وراء كوارث كثيرة أخرى إنها وراء الزيادة السكانية التى عجزت كل الحكومات عن مواجهتها رغم أن محو الأمية أحد الحلول المضمونة وهى وراء انتشار المخدرات والرعاية الصحية وكثير من الجرائم وعدم القدرة على مجاراة روح العصر إن هناك تعارضا شديدا بين التكنولوجيا واستخدامها فى الإنتاج والأمية ومازالت وحداتنا الإنتاجية تشكو من غياب القدرات المهنية المميزة التى تحتاج إلى خبرات متطورة لا توفرها الأمية.. إن الشخص الأمى هو الذى يستجيب للشائعات بما فيها قضايا التطرف والإرهاب ولهذا فقد تأجلت هذه القضية مائة عام كان من الممكن أن تكون مصر الآن وطنا آخر يعرف حقوقه وواجباته ودوره ومسئولياته فى الحياة، أما الإبقاء على هذه الملايين وهى غارقة فى دنيا الخزعبلات والعفاريت فهذا ضياع للجهد والعمل والفكر والإنتاج.. لقد حرمت الأمية المصريين من مناخ سياسى منفتح يدرك فيه المواطن حقوقه وواجباته.. ولكنها تحولت إلى سجن كبير لسنوات طويلة غاب فيها الرأى وسقطت أهمية الحوار.
> توقفت عند هذه القضايا الثلاث فكر الإرهاب والخطاب الدينى والأمية وعلاقة كل هذا بدرجة الوعى لدى المصريين ولا شك أن بينها أشياء تجمعها، إن ثقافة الإرهاب هى النتاج الطبيعى للفهم الخاطئ للدين والخطاب الدينى الواعى المستنير وهو الطريق الأمثل للدين الحقيقى بسماحته ووسطيته.. أما الأمية فهى الأرض التى أنجبت فكر الإرهاب وأفسدت كل محاولات الإصلاح الديني.. والحل أن هذه الثلاثية لابد أن تعامل من خلال منطلقات واحدة لأن إصلاح الخطاب الدينى يقضى على عشوائية فكر الضلال والإرهاب ومحو الأمية هو الذى سيضيء عقول البشر فلا تتسلل إليها الخفافيش..
ويبقى الشعر
لن أقبلَ صمتَكَ بعد اليومْ
لن أقبل صمتي
عمري قد ضاع علي قدميكْ
أتأمّل فيكَ وأسمع منك
ولا تنطقْ.
أطلالي تصرخُ بين يديكْ
حَرّكْ شفتيكْ
اِنطِقْ كي أنطقْ
اصرخْ كي أصرخْ
ما زال لساني مصلوباً بين الكلماتْ
عارٌ أن تحيا مسجوناً فوق الطرقاتْ
عارٌ أن تبقي تمثالاً
وصخوراً تحكي ما قد فاتْ
عبدوكَ زماناً واتّحدتْ فيكَ الصلواتْ
وغدوتَ مزاراً للدنيا
خبّرني ماذا قد يحكي، صمتُ الأمواتْ!
ماذا في رأسكَ خبّرني!
أزمانٌ عبرتْ.
وملوكٌ سجدتْ.
وعروشٌ سقطتْ
وأنا مسجونٌ في صمتكْ
أطلالُ العمرِ علي وجهي
نفسُ الأطلالِ علي وجهكْ
الكونُ تشكّلَ من زمنٍ
في الدنيا موتي. أو أحياءْ
لكنكَ شيءٌ أجهلهُ
لا حيٌّ أنتَ ولا مَيّتْ
وكلانا في الصمتِ سواءْ
أَعْلنْ عصيانَكَ. لم أعرف لغةَ العصيانْ
فأنا إنسان يهزمني قهرُ الإنسانْ
وأراكَ الحاضرَ والماضي
وأراكَ الكُفرَ مع الإيمانْ
أَهربُ فأراكَ علي وجهي
وأراكَ القيدَ يمزّقني
وأراكَ القاضيَ.. والسجّانْ
اِنطقْ كي أنطقْ
أصحيحٌ أنكَ في يومٍ طفتَ الآفاقْ
وأخذتَ تدور علي الدنيا
وأخذتَ تغوصُ مع الأعماقْ
تبحث عن سرّ الأرضِ
وسرِّ الخلقِ وسرّ الحبِّ
وسرِّ الدمعِة والأشواقْ
وعرفتَ السرَّ ولم تنطقْ؟
ماذا في قلبكَ؟ خبّرني!.
ماذا أخفيتْ؟
هل كنتَ مليكاً وطغيتْ
هل كنتَ تقيّاً وعصيتْ
رجموكَ جهاراً
صلبوكَ لتبقي تذكاراً
قل لي من أنتْ؟
دعني كي أدخلَ في رأسكْ
ويلي من صمتي!. من صمتكْ!
سأحطِّمُ رأسكَ كي تنطقْ
سأهشّمُ صمتَكَ كي أنطقْ!
أحجارُكَ صوتٌ يتواري
يتساقطُ مني في الأعماقْ
والدمعةُ في قلبي نارٌ
تشتعل حريقاً في الأحداقْ
رجلُ البوليسِ يقيُّدني
والناسُ تصيحْ:
هذا المجنونْ
حطَّمَ تمثالَ أبي الهولْ
لم أنطق شيئاً بالمرّه
ماذا. سأقولْ؟
ماذا سأقولْ!
«قصيدة وكلانا في الصمت سجين سنة 1986»
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع