كنت دائما ومازلت اشعر بإنتماء شديد لجامعة القاهرة ومازلت رغم سنوات العمر اذكر ايامى فيها يوما بعد يوم.. ومازالت الذاكرة تحفظ اسماء
اساتذتى الذين اناروا عقلى وشكلوا وجدانى وكانوا النموذج الرائع والقدوة الطيبة.. احفظ ملامح جامعة القاهرة مكانا مكانا واعرف اشجارها العتيقة
ونخيلها الشامخ وساعتها التى دارت معها سنوات العمر.. ولم تكن رحلتنا معها مقصورة على كلية الآداب ولكنها امتدت لتشمل حديقة كلية الزراعة
ومعامل كلية العلوم وطب قصر العينى بتاريخه المجيد.. فى جامعة القاهرة كانت لنا ايام ليست مثل كل الأيام..
من اجل هذا شعرت بالسعادة وانا اتابع الموسم الثقافى والفنى الذى بدأ فى قاعة المحاضرات الكبرى درة الجامعات المصرية تحت رعاية د. جابر
نصار رئيس الجامعة وشارك فيه المهندس ابراهيم محلب رئيس الوزراء والعالم المصرى الجليل د. فاروق الباز. فى اسبوع واحد تحدث محلب عن
طموحات وهموم حكومته واحلامه فى مستقبل افضل يتناسب مع ثورتين عظيمتين شارك شباب مصر فى صنعهما.. وتحدث الدكتور الباز عن
طموحات التنمية وافاق المستقبل فى ظل مجتمع جديد يسعى الى استعادة ما فات من مظاهر البناء والتقدم مبادرة طيبة ان تعود الثقافة ويرجع الفن الى
رحاب الجامعات وليس فقط جامعة القاهرة.. منذ سنوات ونحن نطالب بإستمرار التواصل بين الجامعة والمجتمع وليس فقط بين الجامعة وطلابها..
بقيت الجامعات سنوات طويلة لا تهتم بالأنشطة الثقافية والفنية.. واذكر ان المواسم الثقافية فى جامعة القاهرة كانت تحفل دائما بأسماء كثيرة زينت
الفن المصرى بعد ذلك وتخرجت فيها اجيال من كبار المثقفين والأدباء والشعراء والكتاب والفنانين.. كانت ندوات جامعة القاهرة حتى وقت قريب
تملأ ساحاتها بالحوار والجدل وكان الأساتذة فيها ينشرون منابر الوعى والإستنارة..
عشت فى جامعة القاهرة عصرها الذهبى مع كبار الأساتذة الذين تعلمنا على أيديهم محمد مندور وشوقى ضيف وسهير القلماوى وبنت الشاطئ وامين
الخولى والخشاب والساعاتى ورشاد رشدى ويوسف خليف ومحمد انيس ومجدى وهبه وغربال وزكريا ابراهيم ومصطفى سويف وفاطمة موسى ولطيفة
الزيات وزكى نجيب محمود وعبد اللطيف حمزة وخليل صابات وابراهيم امام ومختار التهامى ويحى الجمل وسامى عزيز ومفيد شهاب هذه الأسماء كانت
تضئ سماء جامعة القاهرة فى وقت واحد وكل واحد منهم كان جامعة فى ذاته ولم يكن غريبا ان تكتمل رحلتهم مع اجيال جديدة من المبدعين الكبار سمير
سرحان وعنانى وعصفور وتليمه وبدر وحمودة وفوزى فهمى واحمد مرسى.. هذه الكوكبة هى التى زينت وجه جامعة القاهرة الدور والمكانة..
{ منذ زمان وانا اصرخ فى البرية اعيدوا الثقافة والإبداع الى الجامعات لأنها الوحيدة القادرة على مواجهة حشود الإرهاب ومقاومة الفكر
المتخلف.. وامام تجاهل النداء تسربت جماعة الإخوان المسلمون الى الجامعات واستولت على عقول الشباب وتحولت الأنشطة الثقافية الى سجال
بين من احتكروا الدين ونصبوا انفسهم اولياء لله على بقية البشر وبين من انسحبوا تماما من الساحة خوفا او استسلاما .. احتلت التيارات الدينية
المغرضة الجامعات المصرية وكانت قادرة على ان تمنع ما تريد وتبقى ما يحلو لها حتى انها استخدمت فى فترة من الفترات العصى والسنج لمنع تقديم
مسرحية او حفل فنى.. ولم يقتصر نشاط الإخوان على الطلاب ولكنهم تسللوا الى مواكب الأساتذة واصبحت الكثير من المحاضرات دعوات دينية
فجة ابعد ما تكون عن سماحة الدين..
ان الحديث فى الدين او الدعوة له ليست القضية التى يرفضها انسان عاقل لأننا جميعا نحب ديننا وما يحمله من الفضائل والسماحة ولكن حين يتحول الى
دعوات للعنف او كراهية الآخر او التمييز بين شركاء الوطن او إقصاء البعض تحت دعاوى الرفض والتكفير هنا تصبح القضية اكبر ويصبح الفكر
المريض كارثة تحل بالجميع..
على جانب آخر كانت الإنتخابات الطلابية فرصة لأن تفرض جماعة الإخوان وصايتها على الوسط الطلابى بل انها تحولت فى احيان كثيرة الى وسائل
ضغط على هيئات التدريس فكان طلاب الإخوان يمنعون المحاضرات ويطردون الأساتذة ويعتدون عليهم
حدث هذا فى كل الجامعات تقريبا والعهد البائد مشغول فى توزيع الأراضى وبيع اصول الدولة وتوزيع ثروات الوطن على المحاسيب وتزوير الإنتخابات
ومنح الهبات للحواريين من انصاره.. وفى الوقت الذى استولت فيه التيارات الإسلامية على منابر الجامعات واتحادات طلابها وجندت المئات من
الأساتذة انشغلت الحكومات المتعاقبة بتوزيع الغنائم.. وهنا انسحبت كل الوان الأنشطة الثقافية والفنية والندوات واللقاءات.. ومع هذا الإنسحاب
كان غياب اصحاب الفكر الواعى المستنير من الساحة اما خوفا او إحباطا او سعيا وراء المكاسب الشخصية..
{ كان غياب مؤسسات الدولة التعليمية وغياب النخبة من الأساتذة وانفراد الإخوان بجميع الأنشطة الفكرية فى الجامعات اكبر خطيئة مهدت بعد ذلك
لما حدث فى جامعات مصر من انهيار فى المنظومة التعليمية والأخلاقية.. وللأسف ان ذلك كله انتهى بما شهدته الجامعات من اعمال العنف على يد
طلاب تم تشكيلهم فى ظل مناخ تربوى وتعليمى واخلاقى فاسد عاشت عليه طوال العهد البائد مؤسسات تعليمية وثقافية فرطت فى مسئوليتها ودورها فى
خدمة هذا الوطن.
{ امام غياب الثقافة فى الجامعات المصرية كانت السياسة بدورها من الأنشطة المحظورة حتى ما يتعلق بالحزب الحاكم الذى سيطرت عليه مجموعة
من رجال الأعمال وسماسرة التوكيلات وتجار الأراضى وهؤلاء لم تكن الثقافة تعنيهم فى شئ حتى الإجتماع السنوى للحزب كانت تتصدره دائما فى
صفوفه الأولى صور رجال الأعمال دون ان يكون بينهم مفكر او مثقف واحد.. لم يكن فى الحزب الوطنى لجنة للثقافة بينما كان الإخوان ينتشرون
فى الجامعات المصرية ومن يتخرج فى الجامعة تلتقطه النقابات المهنية ونوادى هيئات التدريس ومع الوقت تحولت الأنشطة الثقافية فى الجامعات الى
مدارس للكوادر السياسية التابعة للإخوان المسلمين وتوابعهم ..وللأسف الشديد ان هذا ما تواجهه الأن الدولة المصرية بقوات الأمن امام طلاب
يحرقون جامعاتهم ويضربون اساتذتهم ولا يدينون بالولاء لأى شئ غير افكار مريضة..
{ لقد بدأت كارثة الجامعات المصرية من خلال أنشطة ثقافية مشبوهة ثم انتقلت الى جماعات سياسية استخدمت الدين وسيلة لتضليل الشباب ثم كانت
مرحلة فشل الإخوان فى الحكم وخروج هؤلاء الشباب بأجندة جديدة هى العنف والفتن ونشر الفوضى.. لو رجعنا الى اسباب الأزمة سوف نكتشف ان
الدولة بكل مؤسساتها كانت شريكا فى نمو هذه الظواهر المرضية هى التى تركت الجامعات للإخوان بلا ثقافة ثم تركتها بلا سياسة.. ثم سلمتها بعد
ذلك للعنف والفوضى.. هذه الثلاثية: الثقافة والسياسة والفوضى كانت هى الدوائر التى لعبت فيها جماعة «الإخوان المسلمين» وقت تركت فيه
الدولة الساحة خالية لهم امام شباب راح ضحية هذه الخطايا.. على جانب آخر كان توزيع العطايا على الفقراء من الطلاب والأدوية والكتب والملازم
وبيوت الطالبات والدروس الخصوصية من الأساتذة بلا مقابل وفى ظل هذه التركيبة نفذ الطلاب ما صدر اليهم من اوامر.. احرقوا الجامعات.
فى ظل اهمال جسيم من مؤسسات الدولة التعليمية وغير التعليمية سيطر الإخوان على جميع الانشطة الثقافية والسياسية فى الجامعات المصرية وفى
الوقت الذى حرمت فيه الدولة اى نشاط سياسى للطلاب كانت جماعة الإخوان هى الوحيدة التى مارست العمل السياسى بكل تجاوزاته امام الدولة
المصرية ثلاثين عاما حتى انها قامت بتأسيس ميليشيات فى جامعة الأزهر والدولة لا تفعل شيئا.. ان الدولة المصرية تحشد الآن كل امكاناتها الأمنية
لمواجهة اخطاء تتحمل الجزء الأكبر من مسئوليتها اولها الإهمال وآخرها التسيب فقد ساومت لفترات طويلة الوجود الإخوانى وهو ينتشر ويجند ويحصل
على كل ما يريد من المكاسب والمواقع والأدوار ابتداء بالبرلمان وانتهاء بالجامعات والنقابات المهنية والأن نحن امام مواجهة امنية لمن يخرب الجامعة
او يهدم جدرانها ولكن تبقى بعد ذلك وقبل ذلك المواجهة الفكرية وهى التى بدأت على استحياء فى جامعة القاهرة فى موسم ثقافى شامل فكريا وسياسيا
وفنيا ان تجمع الطلاب حول حوار هادئ مع رئيس الحكومة او لقاء مع عالم فى حجم فاروق الباز او مناقشة حرة مع فضيلة المفتى هذه اللقاءات هى
البداية لمواجهة التطرف فى الفكر والذى وصل ببعض شبابنا الى مناطق العنف والفوضى.. يجب ان تكون هناك مواجهات فكرية أخرى فى جامعة
الأزهر بين شباب ضللته افكار مريضة وشيوخ أجلاء يدركون سماحة الإسلام وترفعه عن كل ما نراه الآن من مظاهر الشغب والفتن والإعتداء على
مؤسسات الدولة.. نحن امام شباب يحتاج الى اياد تهديه وتسير به فى طريق من الوعى بعد سنوات طويلة تشكل فيها من خلال مفاهيم مغلوطة وافكار
متطرفة.
{ ان الأنشطة الثقافية يمكن ان تكون بداية لخروج اعداد كبيرة من الشباب من متاهات الفكر المتطرف وقد اخذت هذه الأفكار من اعمارهم سنوات
وسنوات ويجب ان نصبر عليهم حتى يستعيدوا توازنهم الفكرى والوطنى والإنسانى.. هنا ايضا يأتى دور الإعلام لتشجيع هذه المبادرات الواعية
بحيث تأخذ هذه الأنشطة مكانتها فى الإعلام المصرى لعل الناس تشاهد وجها ثقافيا مضيئا فى الجامعات بعيدا عن حفلات الرقص ومسلسلات الردح
والبذاءات التى تحاصرنا بها كل ليلة الفضائيات وبرامج اللهو غير البرئ والقضايا الجنسية والمنشطات وهذا العبث الإعلامى الرخيص.. إذا كنا
جميعا نقف وراء جيش مصر والشرطة فى الدعوة للأمن والإستقرار فإن واجبنا جميعا ان نعالج جوانب القصور الفكرى والثقافى والسياسى فى
جامعاتنا.. كانت الجامعات اكثر المناطق التى تعرضت لعمليات تخريب منظمة وجاء الوقت لإنقاذ اجيالنا الجديدة من هذه المحنة حيث لا ثقافة ولا
سياسة ولا تعليم.
..ويبقى الشعر
مثـْـلُ النـَّوارس..
حينَ يـَأتى اللـَّيْـلُ يَحْمِلـُنِى الأسَي
وأحنُّ للشـَّط ّ البَعيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس..
أعْشـَقُ الشـُّطآنَ أحْيانـًا
وأعشَقُ دَنـْدنـَات الرّيح.. والموْجَ العَنِيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس..
أجْمَلُ اللــَّحظـَاتِ عِنـْدِى
أنْ أنـَامَ عَـلى عُيُون ِ الفـَجر
أنْ ألـْهُو مَعَ الأطـْفـَال فِى أيَّام عيـِدْ
مثـْـلُ النـَّوارس..
لاأرَى شَيـْئـًا أمَامِي
غـَير هَذا الأفـْق..
لا أدْرى مَدَاهُ.. وَلا أريدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
لا أحبُّ زَوَابعَ الشُّطـْآن ِ..
لا أرْضَى سُجُونَ القـَهْر..
لا أرْتاحُ فى خـُبْز العَبيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس..
لا أحِبُّ العَيْشَ فِى سَفحْ الجبَال..
وَلا أحِبُّ العشْقَ فى صَدر الظـَّلام ِ
وَلا أحِبُّ الموْت فِى صَمتِ الجَليدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
أقـْطفُ اللـَّحظاتِ مِن فـَم الزَّمَان ِ
لـَتحتوينـِى فـَرْحة ٌ عَذراءُ
فِى يَوْم ٍ سَعِيدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ ..
تعْتـَريــِنـِى رعْشَة ٌ.. وَيَدُقُّ قـَلبـِى
حِينَ تـَأتِى مَوْجَة ٌ
بالشَّوْق ِ تـُسْـكرُنِى.. وأسْـكِرُهَا
وأسْألـُهَا المزيدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
تـَهْدأ الأشْواقُ فِى قـَلبى قليــِلا ً
ثـُمَّ يُوقظـُهَا صُرَاخُ الضَّوءِ
والصُّبحُ الوَليدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
أشـْتـَهـِى قلـْبًا يعانِقـُنِي
فأنـْسَى عنـدُه سَأمِى..
وَأطـْوى مِحنـَة َ الزَّمَن ِالبَلِـيدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
لا أحَلـّق فِى الظـّلام..
وَلا أحبُّ قوافِلَ التـَّرحَال..
فِى اللـَّيْـل الطـَّريدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
لا أخَافُ الموْجَ
حِينَ يَـثـُورُ فِى وَجْهـِى.. وَيَشْطـُرُنِي
وَيبْدُو فِى سَوَادِ اللــَّيل كالقـَدر العَـتيدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
لا أحبُّ حَدَائقَ الأشجَار خـَاوَيـَة ً
وَيُطـْربُنـِى بَريقُ الضَّوْءِ
وَالمْوجُ الشَّريدْ
مثـْلُ النـَّوارس..
لا أمَلُّ مَوَاكِبَ السَّفـَر الطـَّويل..
وَحِينَ أغـْفـُو سَاعة ً
أصْحُو.. وَأبحرُ مِنْ جَديـِدْ
كـَمْ عِشْتُ أسْألُ مَا الـَّذى يَبْقي
إذا انـْطفـَأتْ عُيُونُ الصُّبح ِ
واخـْتـَنـَقـَتْ شُموعُ القـَلـْبِ
وَانكسرَتْ ضُلوعُ الموْج ِ
فِى حُزن ٍ شديدْ؟!
لا شَيْءَ يَبْقـَى..
حِينَ ينـْكسرُ الجنـَاحُ
يَذوبُ ضَوءُ الشَّمْس
تـَسْكـُنُ رَفرفـَاتُ القـَلـْبِ
يَغمُرنا مَعَ الصَّمتِ الجَليـِدْ
لا شَيءَ يَبْقـَى غـَيُر صَوْتِ الرّيح
يَحمِلُ بَعْضَ ريشى فـَوْقَ أجْنِحَةِ المسَاءِ..
يَعُودُ يُلقيها إلى الشـَّط ّ البَعيدْ
فأعُودُ ألـْقِى للرّيَاح سَفِينتِي
وأغـُوصُ فى بَحْر الهُمُوم ِ..
يَشـُدُّنى صَمْتٌ وَئيدْ
وَأنـَا وَرَاءَ الأفق ِ ذكـْرَى نـَوْرس ٍ
غـَنـَّى .. وَأطـْرَبَهُ النـَّشِـيدْ
كـُلُّ النـَّوارس..
قبْـلَ أنْ تـَمْضِى تـُغـَنـّى سَاعَة ً
وَالدَّهْرُ يَسْمَعُ مَا يُريدْ
قصيدة مثل النوارس سنة 1996