منذ سنوات كنت اجلس مع كاتبنا ومفكرنا الكبير الراحل د. زكى نجيب محمود وجاءت سيرة واحد من كتاب مصر الكبار
وقال د. زكى ان مشكلة هذا الكاتب رغم ثقافته الغزيرة فإنه يعانى مرضا خطيرا يمكن ان اسميه “الحول الفكرى “ ويومها كتبت مقالا فى الأهرام بهذا العنوان حول هذه الظاهرة التى اجتاحت عقول البعض من رموز النخبة واتسعت دوائرها وشهدت الساحة سباقا محموما من يكون اكثر تطرفا فى الفكر والمواقف حتى وصل بنا الحال الأن ونحن نلقى تلال الحجارة على بعضنا البعض لم تعد القضية حولا فكريا ولكنها اصبحت العمى الفكرى بكل ظواهره ..
اقول ذلك وانا اتابع بغضب شديد ما يجرى فى الساحة المصرية من معارك ضبابية ليس فيها منتصر ولا مهزوم ولكن الهزيمة الحقيقية هى دور مصر وقوتها الناعمة التى تتبعثر كل يوم على مهاترات الفضائيات ومعارك «الفيس بوك» والشطط الجامح الذى اجتاح بعض العقول لتصنع معارك وهمية أفسدت عقول الشباب وشوهت وجه مصر الحضارى ولا أحد يعرف من وراء هذه الكوارث .. الغريب فى الأمر أن النخبة المصرية لاترى ما يجرى حولنا ابتداء بالوطن الذى نعيش فيه وانتهاء بالمنطقة التى ننتمى اليها ..
كيف ترى النخبة الواقع المصرى الآن ..
> ماذا عن معاناة الملايين الذين يسكنون العشوائيات وتسعى الحكومة بكل الوسائل ان توفر لهم شيئا من الحياة الكريمة.. أين هؤلاء فى أجندة النخبة المصرية التى اقتصر دورها على تفاهات الفضائيات وبرامج الإسفاف ومسلسلات التخلف.. أين النخبة المصرية من الملايين الذين اكلتهم الأمية وأين هم من نظم التعليم المتخلفة .. وماذا عن الكوارث التى تطاردنا كل يوم .. أين النخبة من المشروعات التى يجرى إنشاؤها رغم الظروف الصعبة التى يعانيها الإقتصاد المصرى ما بين الديون وسعر الدولار والعجز فى الميزانية وفاتورة الاستيراد وسلبية مواقف رجال الأعمال..
> أين النخبة مما يجرى فى سيناء على حدود مصر الشرقية وهناك جزء عزيز من الوطن يهدده الإرهاب وتهدده مؤامرات دولية .. أين النخبة مما يجرى على حدودنا الغربية حيث اجتاحت عصابات الموت الشعب الليبي واصبحت على مسافة قريبة من حدود مصر.. أين هذه النخبة مما يجرى فى منابع النيل وسد النهضة وعشرات السدود الأخرى التى تهدد حياة المصريين وليس لديهم موارد مائية غير ما يصل اليهم كل عام مع الفيضان أين هذه النخبة من شطط جماعة دينية متخلفة استباحت كل شىء من أجل الوصول الى السلطة ولم تدرك حتى الأن انها فشلت وعليها ان تدفع ثمن فشلها ان ما يفعله الإخوان المسلمون الأن مع الشعب المصرى هو العمى الفكرى والشطط الدينى الذى اختار الإرهاب والقتل طريقا واسلوب حياة.. ماذا تعرف النخبة المصرية عن احوال الفلاح المصرى عندما اغرقته السيول والأمطار.. ماذا تعرف هذه النخبة عن مئات المصانع التى توقفت خلال السنوات الخمس الماضية وسرحت عمالها وقطعت ارزاقهم ..
> أين كانت هذه النخبة فى انتخابات البرلمان الأخيرة ولماذا خبا صوتها وتشردت جموعها وخرجت من المولد بلا حمص.. أين الحنجوريون الكبار الذين ملأوا السماء صخبا وضجيجا.. وأين هؤلاء جميعا من معارك الفضائيات وهذا الكم الرهيب من الجهل والإسفاف والشتائم والبذاءات أين هم من كل هذه الأمراض التى شوهت ثقافة مصر دورا ورسالة ومسئولية .
هذا للأسف الشديد حال هذه النخبة حيث غابت عن دورها وبدأت تمارس أدوارا طائشة تفتقد الوعى والحكمة .. ان اغرب الأشياء ان تسمع اصواتا تردد أشياء لا معنى لها ولاقيمة ولكنها الرغبة فى الوجود والضجيج, انه ضجيج بلا هدف أو غاية.
> أين هذه النخبة من اجيال الشباب الحائر ما بين الإعلام العاجز ولعنة المخدرات ومأساة البطالة وهؤلاء الشباب يبحثون عن القدوة فتطاردهم اشباح الجهل والتخلف فيهربون الى ذواتهم ومنهم من هرب الى الموت فأصبح إرهابيا ومنهم من عاش فى غيبوبة لا تفيق ومنهم من هاجر باحثا عن حلم فى وطن آخر يمنحه شيئا من الأمل والكرامة.
أين النخبة المصرية مما يجرى فى مصر الآن.. ان هذه النخبة كانت مقياسا لتقدم وازدهار هذه الأمة حين قادت حركات التنوير واحتضنت حركات التحرر الوطنى وحافظت على هوية هذه الأمة فكرا ودينا وسلوكا.
ان السؤال الأخطر أين هذه النخبة مما يجرى حولنا وخارج حدودنا.. كانت هذه النخبة فى يوم من الأيام عقل هذه الأمة وضميرها ووجدانها.. فأين الأمة وأين نخبتها الواعية المتحضرة القادرة على صياغة مستقبل أفضل ..
هل من الحكمة أن يطلق بعض المنتمين الى هذه النخبة شعارات واقوال تفرق الشعوب وهى تواجه هذا المستقبل الغامض.. مقولات تافهة تفتقد المصداقية والأمانة.. وتحطم كل الثوابت التى عاشت عليها الشعوب ودافعت عنها وماتت فى سبيلها..
> هل من حق أى مدع ان يحمل رشاشا ويطلق النار على كل شىء ويوزع الاتهامات والأوسمة وهو غائب عن الوعى ولا يدرى ما يقول .. كيف نسمح ان يهان الأزهر الشريف وهو من انقى صفحات مصر وقوتها الناعمة.. ماذا يقول المسلمون فى كل بقاع الأرض وهم يشاهدون ويسمعون هذا اللغو الذى يشوه صورة هذه المؤسسة العريقة كيف يسمح المصريون ان يقال إن ازهرهم مؤسسة إرهابية.. وأين الرجال العظام الذين خرجوا منها وتعلموا فيها أين محمد عبده وآل عبد الرازق وشلتوت والغزالى وخالد محمد خالد والشعراوى.
حين طالب الرئيس عبد الفتاح السيسى الأزهر الشريف بترشيد الخطاب الدينى كان يبحث عن فكر متجدد ولم يطالب بهدم الأزهر وتشويه صورته حتى يقف كل مدع ويطالب بثورة دينية تهدم كل شىء.. هل من العقل ومن الحكمة ان يقف إنسان عاقل ويقول ان الفتح الإسلامى لمصر على يد عمرو بن العاص كان احتلالا عربيا إسلاميا..هل هذا وقت يقال فيه هذا اللغط امام امة تتفكك وأوطان تنهار هل تجديد الخطاب الدينى ان نسمع أحدا يدعى كذبا ان الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشرب الخمر..هل من العقل ان نسمح بترديد هذه الأقوال التى تبث الفتن والأحقاد بين الناس..
> وإذا كان البعض يتحدث كذبا وضلالا عن الاحتلال العربى الذى تم منذ مئات السنين فماذا عن الاحتلال الأمريكى للعراق وماذا عن الاحتلال الروسى لسوريا.. وماذا عن مؤامرات إيران فى اليمن وسوريا ولبنان.. وماذا عن قوات حلف الأطلنطى التى دمرت ليبيا.. وماذا عن حشود الإرهاب فى سيناء.. وماذا عن مياه النيل التى تعانى مخاطر كثيرة والسدود تنتشر فى كل مكان.. وماذا عن الخليج العربى وإيران تهدد كل شبر فيه.. أين الملايين التى هربت من النيران والدمار فى سوريا والعراق واليمن وليبيا.. أين نحن من كل ما يجرى فى فلسطين والاحتلال الصهيونى يدمر كل شىء فى ارض فلسطين هل نسينا كل هذه القضايا ولم يبق غير ان نتحدث عن الاحتلال الإسلامى لمصر وكيف تنتشر هذه الأفكار الشاذة المريضة على الفضائيات وتشوه كل علاقات التواصل والمودة بين الشعوب فى وقت نحن احوج فيه لجمع الشمل وسط هذا الظلام الرهيب وهذه المؤامرات التى تحيط بنا من كل جانب.. هل من الحكمة ان يخرج علينا من وقت لآخر وجه مخبول يثير المعارك الوهمية بحثا عن الأضواء ويجد من يساعده على ذلك هذه وجوه اولى بها ان تعالج فى المصحات النفسية ولا تنزل ضيوفا على البيت المصرى فتشوه الحاضر والماضى وتصادر حق الشعب فى حياة افضل
> نحن نعيش زمن التناقضات .. الدولة تطالب بتجديد الخطاب الدينى من خلال ازهرها الشريف وبعض رموز النخبة يقدمون الشكاوى والبيانات للمؤسسات الدولية ضد ازهرهم لأنه مؤسسة إرهابية ..
> الجميع يتحدث عن الخطاب الدينى المستنير والمجتمع كله غارق فى متاهات العفاريت والسيول والأمطار والمجارى والمياه وكأن الأزهر هو المسئول عن كل جرائم العصور السابقة واللاحقة ..
> جماعة دينية تحرض العالم علينا وجماعة علمانية تحرض المسلمين على الأزهر الشريف.. ويتفق اصحاب الدعوات الدينية والجماعات العلمانية على تشويه صورة الوطن امام العالم كله ما هو الفرق بين الإخوان وهم يحرضون العالم علينا والعلمانيين وهم يطالبون العالم نفسه باعتبار الأزهر مؤسسة ترعى الإرهاب..
> أين هؤلاء وهؤلاء من سكان العشوائيات وفقراء مصر الغلابة الذين اجتاحتهم حشود الأمية .. وحشود الأمطار والسيول والنخبة غارقة فى تفاهات الفضائيات ومعاركها الوهمية.
> شىء غريب فى هذه المعارك هو استخدام اسم رئيس الدولة فى امور ليست من سلطاته ان يحمى فريقا من فريق آخر وكلاهما على خطأ.. ان رئيس الدولة يطوف المحافظات ويفتتح المشروعات ويتصدى للمؤامرات وهو لم يطالب أحدا ان يتحدث باسمه وهذا خطأ ينبغى ان يتوقف عنه الإعلام وهو يتحدث باسم الرئيس وباسم الثورة الدينية التى يدعوا إليها الرئيس أرجو من الرموز الضالة والمضللة الا تستخدم اسم عبد الفتاح السيسى فى هذه المهاترات ويكفيه ما يواجهه من الأزمات والمشاكل..
> ما هو المبرر فى إقحام الأجهزة الأمنية السيادية فى الدولة فى موضوعات وقضايا تهدد الأمن القومى ان هذه الأجهزة فى كل دول العالم تتمتع بحصانة خاصة فى كل ما ينشر او يذاع عنها و فى الفترة الأخيرة استباحها الإعلام المصرى تماما.
> مطلوب من الدولة وهذا ليس تحريضا ان تكون لها وقفة مع الإعلام المصرى وعشرات الضيوف الذين يتنقلون بين الفضائيات كالأوبئة يشعلون الفتن ويخربون عقول الناس ويدخلون بهم فى متاهات من الجهل والتخلف والضياع.. على أى اساس تختار الفضائيات ضيوفها وأين هى من قضايا مصر الحقيقية.. هل كل هدف الفضائيات ان تستضيف شخصا مخبولا يقلب الحقائق ويشوه التاريخ ويلقى سمومه فى عقول أجيال بريئة تحاول ان تجد لنفسها مكانا فى هذا العالم.. ان هذا يشبه اهالى بيزنطة حين جلسوا يتبادلون الإتهامات ويتساءلون هل الملائكة ذكور ام إناث بينما جيوش الأعداء تحاصرهم .. نحن الأن نعيش فى غيبوبة الفضائيات حيث تشتعل المعارك حول تصريح هنا او شعار هناك ووسط هذا الدخان ننسى قضايانا الحقيقية فى إعادة البناء وننسى قضايا امتنا فى الكوارث التى تتعرض لها فى إطار مؤامرات دولية شريرة.. ان اخطر ما نعانيه الآن ان الدعوات الضالة والمضللة تتخفى بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان بينما هى فى الحقيقة دعوات شريرة تشوه ثوابت المجتمعات وعقول ابنائها وتزرع الفتن فى وقت نحن احوج ما نكون فيه لجمع الشمل وتوحيد الصفوف
اعود من حيث بدأت ان العمى الفكرى لا يبنى شعوبا ولا ينير عقولا بل انه أقصر الطرق الى ظهور عاهات وامراض فكرية لا تجنى الشعوب من ورائها شيئا غير الفتن وسوء الأحوال .
..ويبقى الشعر
تـَعَالـَىْ أعانــقُ فيـــكِ اللـَّيــــالِــــى
فـَلـَمْ يَبْقَ للـَّحْن ِ غيرُ الصّــَدَى
وآهٍ مِنَ الحُزْن ِ ضَيْفـًا ثــــــَقِيــــلا ً
تـَحَكـَّمَ فى العُمْر واسْتعْبــــــَدَا
فهيَّا لِنـُلـْقيـهِ خــَلـــــْف الزَّمَــــــان ِ
فـَقـَدْ آن لِلقلـْبِ أنْ يسعــــــــدَا
إذا كـُنـْتُ قدْ عشْتُ عُمْرى ضَلالا َ
فبيْنَ يَديْكِ عرفـْتُ الهُـــــــــدَى
هُوَ الدَّهرُ يَبْنِى قـُصورَ الرمَــــــال ِ
وَيهدِمُ بالموْتِ .. ما شيَّـــــــــدَا
تـَعالىْ نـَشُــــمُّ رَحِيــــــقَ السِّنِيـــن ِ
فـَسَوفَ نـَراهُ رَمادًا غـَــــــــــدَا
هُوَ العَامُ يَسْكــبُ دَمْـــــعَ الـــوَدَاع ِ
تـَعَالـَىْ نـَمُدُّ إليــــــــهِ اليَــــــــدَا
وَلا تـَسْألِى اللـَّحنَ كـَيْفَ انتـَهَــــى
وَلا تـَسألِيه ..لماذا ابْــتــــــــــَدَا
نُحَلـِّقُ كالطـَّيْر بَيـْنَ الأمَــــانِــــــى
فلا تـَسْألى الطـّيرَ عَمَّا شَــــــدَا
فمهْمَا العصَافيرُ طــارَتْ بَعِيـــــدًا
سيبْقـَى التـُّرابُ لـَهَا سَيـــــــــِّدَا
مَضىَ العَامُ منـَّا تعَالــىْ نـُغـَنـــــِّى
فقبلكِ عُمْرى .. مَا غَـــــــــرَّدَا
نـَجـِىُء الحيــــــاة َعلى مــــوعِدٍ
وتبقـَى المنـَايَا لنـَا مَوْعِـــــــدَا
دَفاتِرُ عُمْركِ .. هَّيا احْرقيهَــــــا
فقدْ ضَاعَ عُمرُكِ مِثلى سُـدَى
وماذا سيفـْعَلُ قلبٌ جَريـــــــــــحٌ
رَمتهُ عيونـُك .. فـَاستـُشْهــــدَا
تـُحبُّ العَصافيرُ دفْءَ الغُصُون ِ
كمَا يَعْشَقُ الزَّهْرُ هَمْسَ النـَّدَى
فكيفَ الرَّبيعُ أتـَى فى الخَريــفِ
وبَيْتُ الخَطـَايَا غَدَا مَسْجِدَا ؟!
غَدًا يأكـُلُ الصَّمْتُ أحْلامَنـــــــَا
تعَالىْ أعانقُ فِيكِ الــــــــرَّدَى
أرَاكِ ابتسَامة َ عُمْر قـَصِيــــــر ٍ
فمهْمَا ضَحكـْنـَا ..سَنبْكِى غَدَا
أريدُكِ عُمْرى وَلـَو سَاعـــــة ً
فلنْ يَنـْفـَعَ العُمْرَ طولُ المدَى
ولو أنَّ إبليسَ يومـــــــًا رآكِ
لقـبَّـل عَينـَيـْكِ .. ثم اهْتــــَدَى
قصيدة «اريدك عمرى» سنة 1990”