أكدت لنا أحداث باريس الأخيرة أن الإرهاب لن يبقى كما تصور البعض مقصورا على العالم العربى والإسلامى وأنه تحول إلى ظاهرة كونية تهدد العالم كله .. ليس المهم أن نبحث الآن عن روافد هذه الظاهرة لأنها معروفة ولكن كيف نواجه الأسباب ونسعى إلى اقتلاع الظاهرة من جذورها .. لقد نجحت جماعة إرهابية أن تهز أركان أوروبا كلها فى عملية واحدة فى باريس ورغم كل مظاهر التقدم التى وصلت إليها أساليب الأمن فإنها عجزت أن ترصد ما حدث فى باريس أو تتجنب وقوع الكارثة .. والغريب فى الأمر أن يمتد فكر الإرهاب إلى مكونات المجتمعات التى تصورت أنها بحكم التقدم الحضارى ستبقى بعيدة عن هذا الطوفان ..رغم كل ما تملكه فرنسا من أساليب حديثة من تكنولوجيا العصر وما تحمله من رصيد ثقافى اتسم بالوعى والاستنارة اخترقت مجموعة من الشباب هذه المنظومة وضربت المجتمع الفرنسى فى العمق فى أكثر من مكان فى وقت واحد رافضا كل ما تحمله فرنسا من رصيد حضارى عميق .. إن هذه الرسالة التى وصلت إلى قلب باريس واهتزت لها أركان أوروبا تجعلنا نطالب بمواجهة عالمية لهذه الظاهرة لا تقتصر على وطن أو فكر أو جماعة وهنا ينبغى ان تكون مواجهة فكر الإرهاب بفكر آخر أكثر استنارة ووعيا وتحضرا وهذا لن يكون إلا من خلال منظومة عالمية تشارك فيها جميع الأطراف.
منذ أحداث سبتمبر فى أمريكا والعالم كل العالم يسير نحو اتجاه واحد هو الحلول الأمنية التى بدأت باحتلال العراق وانتهت بسقوط أربع دول عربية فى مستنقع الإرهاب والحرب الأهلية.. وهذا يؤكد فشل المواجهات التى تصور البعض انها ستقضى على الظاهرة .. والأخطر من ذلك ان النيران وصلت إلى الغرب الذى ظن يوما ان الحروب الأهلية فى العالم العربى والإسلامى سوف تشغل حشود الإرهاب عن العالم المتقدم وجاءت كارثة باريس لتؤكد أنه لا احد بعيدا عن يد الإرهاب حتى عاصمة النور.
> كنا ومازلنا نطالب بمواجهة فكرية لهذا الخلل الفكرى والثقافى الذى اجتاح أجيالا من الشباب الرافض لحضارة هذا العصر والشيء المؤكد أن أسباب الظاهرة رغم كل المحاولات مازالت قائمة بل إنها كل يوم تكسب أرضا جديدة أمام تقاعس المجتمع الدولى والمحلى عن مواجهة أسبابها الرئيسية.
إذا كان الغرب مازال يفكر فى استخدام آلياته القديمة فى مواجهة الإرهاب بالقتل والدمار فإن النتيجة كانت واضحة أن المزيد من الموت يعنى المزيد من الإرهاب وعلى الجميع أن يبحث عن حلول بديلة ينبغى ان تبدأ بالفكر والثقافة والوعى والتحضر وهذه الأشياء مازالت حتى الآن بعيدة عن فكر أصحاب القرار .
> سوف تبقى قضايا الإرهاب من اخطر الأزمات والمحن التى لحقت بالإنسان العربى فى العصر الحديث .. إنها قضايا تشابكت فى أسبابها بين الفقر والفكر والتخلف .. وكان أسوأ ما فيها هذه الدماء البريئة التى تدفقت على الأرض العربية وهى تحمل راية الدين أعظم ما قدم الخالق سبحانه وتعالى للبشر.. لا احد يعلم حتى الآن عدد الشهداء والقتلى الذين سقطوا فى مواجهة الإرهاب وفى عملياته الوحشية ضد الناس فى أكثر من مكان .. لا احد يعلم عدد شهداء المواجهات والحروب التى دارت فى أكثر من دولة ومع أكثر من جماعة.
فى عهود الاحتلال الاجنبى فقدت الأمة العربية مئات الآلاف من الشهداء فى سبيل الحرية ولكن هذا العدد يتضاءل كثيرا أمام ضحايا الإرهاب فى السنوات الأخيرة .. لم تبق قطعة أرض فى العالم العربى لم تلوثها حشود الإرهاب.. إن أخطر ما يجرى الآن فى مواجهة الإرهاب أن الاعتماد قد يكون كاملا على الحلول الأمنية ورغم إنها ضرورة تفرضها الظروف ويتطلبها الواقع فإنها لن تحسم المواجهة لأن الجانب الفكرى والواقع الاجتماعى من أهم أسباب هذه الظاهرة .
> لقد ظهرت أشباح الإرهاب فى ظل نظم سياسية مستبدة وأنظمة حكم فرطت فى حرية الإنسان وكرامته وأمام الفقر والاستبداد كانت هناك أنظمة تعليمية فاسدة ومتخلفة ساعدت على حالة التخلف التى أصابت العقل العربى وحرمته من التواصل مع العصر ومواجهة تحدياته .. إن أزمة الفكر العربى احد أهم أسباب التخلف التى وصلت بنا إلى هذا الفكر المشوه الذى ظهر فى جماعات وحشود متخبطة ما بين واقع اقتصادى شديد الشراسة وواقع ثقافى شديد التخلف .. من الخطأ الجسيم ان نفصل قضايا الإرهاب عن أزمة التعليم والثقافة فى عالمنا العربى .. لقد كان الاستبداد هو الأب الشرعى للشطط الفكرى الذى أصاب شباب هذه الأمة ما بين تعليم فاسد وثقافة مريضة ..
وقد تحولت هذه الظواهر إلى حالة من العزلة بين الشباب ومجتمعاتهم ثم زاد حجم المشكلة حين تحولت إلى مواقف رفض لكل ما هو سائد فى هذه المجتمعات وكانت النتيجة النهائية هى خروج هذا الشباب فى حشود رفض واستنكار لكل ما يجرى حولها وللأسف الشديد إن الرفض هنا لم يكن مواجهة بالفكر ولكنه كان رفضا دمويا حمل السلاح ومارس العنف بكل أشكاله..
> إن جماعات الإرهاب كانت فى بدايتها جماعات للفكر المتطرف الذى لم يجد واقعا ثقافيا يحتويه ويرشده بل وجد مدارس فكرية شاذة ومغرضة جنحت به نحو رفض كامل لكل مظاهر الحياة المعاصرة .. وحين خرجت حشود الإرهاب تحمل راية الضلال والكراهية ضد البشر جميعا كان الوقت قد فات لأى مواجهات فكرية يمكن إن تعيد للعقول الشاردة صوابها وحكمتها.. حدث هذا فى معظم التنظيمات والجماعات الدينية التى انتقلت من دوائر الفكر إلى دوائر التطرف إلى ساحات العنف ثم حشود الإرهاب.
لم يحاول أحد أن يمسك بزمام هذه الجماعات قبل أن تخوض وتغوص فى بحار الدم بالتوجيه أو الإرشاد أو الردع وتركنا هذه الأمراض الخبيثة تنتشر وتعصف بكل الثوابت الحضارية والفكرية والإنسانية .. ان الإرهاب شجرة سامة وجدت من يساندها فكراً وواقعا وللأسف الشديد ان المناخ العام ساعد على نمو هذه الظواهر حتى أصبحت خطراُ يهدد الجميع..
> ان ما يجرى على الساحة العربية الآن من مواجهات أمنية دخلت فيها الجيوش وأجهزة الأمن وفى حالات أخرى تحولت إلى حروب أهلية وتدخل اجنبى سافر بالجيوش والعتاد هذه المواجهات الأمنية رغم كل ما نجحت فيه إلا أنها لن تكون ابداً نهاية المطاف فلا بد من برامج مدروسة لمواجهات فكرية وثقافية تقتلع فكر الإرهاب من جذوره وهذه المهمة تتطلب جهودا كثيرة وأموالا كثيرة أيضا فى مجالات التعليم والثقافة والأسرة والشارع والمسجد والكنيسة وقبل هذا كله المؤسسات الدينية التى تخلت عن دورها الحقيقى فى تقديم خطاب دينى واع ومستنير.
> ان جميع مدارس الإرهاب ترفع راية الدين وهى تستخدم كل الأساليب ابتداء بالقتل وقطع الرقاب وانتهاء باستخدام التكنولوجيا الحديثة.. ان كل إرهابى فى العالم العربى الآن يستخدم احدث ما وصل إليه التقدم البشرى ابتداء بمواقع التواصل الاجتماعى وانتهاء بالأسلحة الحديثة, انه يمارس القتل بكل أنواعه وهو لا يتردد فى استخدام الأكاذيب, والشائعات قبل ان يطلق رصاصة تسكن قلب طفل برىء أو يفجر نفسه فى مسجد أو كنيسة حتى لو سقط مئات الضحايا الأبرياء ..ان المواجهات الأمنية تسير فى طريقها وتستخدم فيها كل الوسائل العسكرية ولكن المواجهة الفكرية والثقافية لا بديل عنها .
> لقد تأخر العالم العربى كثيرا فى مواجهة فكر الإرهاب ظنا بأنه يخص أطرافا دون أخرى واكتشف الجميع فى لحظة ما ان المرض ينتشر بسرعة مخيفة ويهدد الجميع دون استثناء .. من كان يصدق ان تواجه الدول العربية كل هذا الدمار بسبب الإرهاب الذى بدأ من نقطة ظلام فى عقل متخلف وتحول إلى ظاهرة مدمرة لم تترك للأمن شيئا .. كم من البلايين ضاعت على الدول العربية فى حربها مع الإرهاب .. كم خسر العراق فيها من الأموال والبشر وأين وطن يسمى سوريا كان منارة حضارية وأين الدولة الليبية وأين اليمن الذى كان سعيدا.. فى عشر سنوات عانت الجزائر الشقيقة من كوارث الإرهاب ومازالت المواجهات بين جيش مصر والإرهاب فى سيناء.. والأخطر من ذلك كله كم تحتاج الدول العربية التى دمرها الإرهاب من الأموال لكى تعيد بناء مؤسساتها وتعود لها الحياة مرة أخرى.. كم من الملايين ضاعت بسبب الإرهاب.. لم تخسر الدول العربية فى حروب الاستقلال ما خسرته فى حروبها ضد الإرهاب وهى تحتاج إلى أموال ضخمة لكى تبدأ من جديد.
> إذا كانت كارثة الإرهاب قد أطاحت بأحلام الشعوب العربية فى التقدم والأمن والرخاء حين سقطت هذه الشعوب فى بحار الدم فان الاستعمار اكتفى بأن تغرق هذه الشعوب فى مآسيها ودماء أبنائها..
كما بدأ الإرهاب فكرا ثم رفضا ثم تطرفا ثم عنفا ثم إرهابا لابد أن نعود به إلى جذوره الأولى وهى مواجهة فكر الإرهاب لان حلول الأمن لن تكفى وعلى العرب ان يواجهوا محنة الفقر والتخلف والفكر المريض لأنها الخطوة الأولى فى المواجهة مع الإرهاب اخطر كوارث الأمة .. إن الشئ المؤكد ان فكر الإرهاب هو أسوأ محنة تواجه الآن المجتمعات العربية وعليها أن تضع لها أولوية خاصة لأنها بكل المقاييس قضية العرب الأولى
> من الخطأ الجسيم أن يتحدث الغرب عن ظاهرة الإرهاب وهو يلقى كل المسئولية على العالم العربى والإسلامى رغم انه مسئول عن كل ما حدث .. إن الجيوش الأجنبية التى اجتاحت العالم العربى منذ احتلال أمريكا للعراق هى التى أشعلت الفتن بين أبناء الشعب الواحد وحركت جراحا قديمة أنهكت جسد هذه الأمة فى يوم من الأيام ما بين السنة والشيعة وما بين مدارس فكرية تعايشت مع بعضها زمنا دون صدام وقبل هذا كله ان الطائرات التى قصفت والأسلحة التى دمرت تركت خلفها حشودا من الرفض والكراهية ربما استخدمت الدين قناعا ولكن الدمار الذى شهدته هذه المنطقة كان الشرارة التى أشعلت نيران الفتن والحروب.
> إن فتح أبواب الكراهية بين الشعوب والحشود العسكرية القادمة من الغرب تحت راية محاربة الإرهاب يمكن أن تحرك فى العالم الإسلامى والعربى صور الماضى القبيح ولاشك فى أن الحالة التى أصابت الشارع الأوروبى فى الأيام الأخيرة وتم فيها إحراق القرآن الكريم والإعتداء على المساجد ومطاردة المسلمين الآمنين فى بيوتهم فى هذه الدول يمكن ان تكون نذير شئوم للجميع
> مازالت أعتقد أن فكر الإرهاب هو أساس الظاهرة ولا بديل أمام العالم العربى والإسلامى غير ان يواجه الفكر بالفكر فقد وصلت المواجهات الأمنية إلى حروب دولية وكانت النتيجة أن زادت حشود الإرهاب وتم تدمير أوطان بالكامل وهذه الأرض التى خربتها الحروب والمعارك سوف تقدم للبشرية المزيد من الإرهابيين من كل لون وجنس وعلى العالم المتقدم ان يدفع ثمن سياساته وأطماعه وعدوانه على حقوق الشعوب والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.
..ويبقى الشعر
تغيبينَ عنـي..
وأمضى مع العُمر مثلَ الســـحابِ
وأرحلُ فى الأفقِ بينَ التمنِّــي
وأهربُ منكِ السنينَ الطوالَ
ويوماً أضيعُ.. ويومَاً أغنِّــي..
أسافرُ وحدى غريباً غريبا
أتوه بحلمى وأشقى بفنِّــي
ويولَـدُ فينا زمانٌ طريدٌ
يخلِّفُ فينا الأسى.. والتجنيّ..
ولو دمَرتنا رياحُ الزمانِ
فما زال فى اللـحنِ نبضُ المُـغنّي
تغيبينَ عني..
وأعلمُ أنَّ الذى غابَ قلبــــي
وأنى إليكِ .. لأنـكِ منِّـي
>>>
تغيبينَ عني..
وأسألُ نفسى تُـرى ما الغيابْ ؟
بعادُ المَكانِ .. وطولُ الســفرْ!
فماذا أقول وقد صرتِ بعضي
أراكِ بقلـبـــي.. جميعَ البشـَــــرْ
وألقاكِ.. كالنور مأوَى الحيارىَ
وألحانَ عمرٍ شجىِّ الوترْ
وإنْ طالَ فينا خريفُ الحياة
فما زال فيكِ ربيعُ الزهرْ
>>>
تغيبين عني..
فأشتاقُ نفسي
وأهفو لقلبـــى على راحتيكِ
نتوهُ .. ونشتاقُ نغدو حَيارى
وما زال بيتــَي.. فى مقلتيـكِ ..
ويمضى بيَ العـمـرً فى كـل دربٍ
فأنسى همومى على شاطئيكِ ..
وإن مزقتنا دروبُ الحياة
فما زلتُ أشـــعر أنى إليكِ ..
أســـافرُ عمرى وألقاكِ يوماً
فإنى خُلقتُ وقلبى لديكِ ..
>>>
بعيدان نحنُ ومهما افترقنا
فمازال فى راحتيكِ الأمانْ
تغيبين عنى وكم من قريبٍ ..
يغيبُ وإن كان ملءَ المكانْ
فلا البعـدُ يعنى غيابَ الوجوه
ولا الشَّـــوقُ يعرفُ .. قيدَ الزمانْ
قصيدة «لأنك منى» سنة 1983»
نقلاً عن "الأهرام"