فاروق جويدة
هذا الرجل يستحق من كل مصرى كلمة وفاء وعرفان وهو يمضى تاركا موقعه الذى لم يحلم به يوما ولم يسع إليه، بل هى الأقدار التى حملته فى لحظة تاريخية صعبة وقاسية لأن يحمل لقب رئيس جمهورية مصر
.. هذا الرجل يستحق ان نقول له شكرا أيها المستشار الجليل وأنت تعود الى عالمك الذى أحببت وطريقك الذى اخترت وقد زدت قصر الرئاسة جلالا وتواضعا ونبلا .. اتحدث عن المستشار الجليل عدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت وقد أوشك أن يجمع أوراقه تاركا قصر الرئاسة بعد أن ادى دوره بكل الصدق والوفاء والتجرد لهذا الوطن فى لحظة هى الأصعب فى تاريخ مصر الحديث .. هذا النموذج الوطنى الرفيع الذى قدمه المستشار عدلى منصور وضرب للمصريين فيه مثلا وقدم لهم صورة فريدة فى الوطنية والولاء ..
< يخرج الرجل من منصبه المؤقت حاملا معه صفحات مضيئة سطرها فى شهور قليلة وعمر المرء ليس بالسنين والأيام ولكن بما يتركه من أثر وقيمة ولا شك أن المستشار عدلى منصور اضاف لمنصب الرئاسة الكثير وترك للمصريين ذكرى رجل نبيل تحمل المسئولية بشرف وادى دورا كبيرا فى حماية وطن يعيش مأساة الانقسام .
إن أقدار الرجال تقاس حسب الأدوار والظروف وحجم التضحيات وحين جاء المستشار عدلى منصور الى كرسى الرئاسة لم يكن يتصور يوما وهو يجلس على منصة أكبر مؤسسة قضائية فى مصر أن الأحداث والأيام والأقدار يمكن ان تلقى به وسط هذه الرياح الصاخبة وهذه الأمواج الغاضبة ليجد نفسه قائد سفينة تحاصرها المؤامرات من كل جانب .. حين كنت اجلس معه منذ اسابيع اقسم لى انه لم يذق فى الأيام الأولى من جلوسه على كرسى الرئاسة طعم النوم دقيقة واحدة والأحداث تحيط به من كل جانب .. لم يضع فى حساباته ان يجلس يوما على هذا الكرسى الذى يحمل الكثير من الذكريات وكان الرجل فى حيرة من امره لقد اختار القضاء طريقا واختار العدل اسلوب حياة وكان يرى ان تحقيق العدالة بين الناس هو ارقى وأعلى مناصب الدنيا وأن السياسة عالم فسيح وطريق طويل وصعب يتطلب اشياء كثيرة كما أن سنوات العمر قد امتدت به وهو بعيد عن السياسة فكيف يجد نفسه مطالبا فى لحظة صعبة ان يقوم بهذا الدور الكبير والبلاد تواجه محنة قاسية .. وقبل الرجل ان يتولى منصب الرئاسة الذى لم يحلم به يوما ..
استطاع المستشار عدلى منصور أن يقدم تجربة قصيرة ورائدة فى حكم البلاد بلا صخب او ضجيج.
على المستوى الداخلى اتسمت خطواته وقراراته بالحكمة والمسئولية ورغم اللحظات الصعبة التى واجهتها مصر إلا ان الرجل تعامل معها بكل الصدق والأمانة وظهر امام الناس بصورة لم يعتادوا عليها فى البساطة والتواضع والإنسانية والزهد فى الأضواء ..
وعلى المستوى الخارجى كان الرجل حريصا ان يلملم جراح وطنه امام العالم وان يقدم نموذجا طيبا للإخوة مع الأشقاء خاصة السعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن الذين وقفوا معنا ويقدم للعالم صورة كبرياء وطن يرفض الخضوع فى لحظة محنة والمؤامرات تحيط به من كل جانب وقد نجح فى توصيل الرسالة فى رحلات قصيرة عابرة للخارج او فى احاديث قصيرة ولقاءات للإعلام قدم فيها صورة رئيس مصر بعيدا عن الصخب والضجيج ..
< لقد عاش المستشار عدلى منصور تجربة صعبة امام الفوضى والإنقسامات والعنف والدماء التى تتدفق فى الشوارع .. وعاش لحظات قاسية والبلاد تعبر من عنق الزجاجة فى مشاكل وازمات يومية فى الأمن والطعام والمعارك والمؤامرات الخارجية ولكنه صمد امام هذه التحديات وحين التقيته قال لى منذ اسابيع اننى متفائل جدا بمستقبل مصر وقد وضعنا اقدامنا على الطريق الصحيح فقد انتهت معركة الدستور وسوف يكون لمصر رئيس جديد يتحمل المسئولية وسوف نبدأ رحلة البناء للمستقبل بعد ان تجاوزنا هذه الظروف الصعبة ..
< ان هذا القصر الذى يغادره المستشار عدلى منصور شهد احداثا وقرارات كثيرة عبر سنوات طويلة بعضها الأن مازال امام العدالة حيث يقف رئيسان سابقان لمصر أمام القضاء فى مشهد لم يحدث من قبل فى تاريخها الحديث وقد كانت الفترة التى قضاها المستشار عدلى منصور رئيسا مؤقتا لمصر من اصعب المراحل فى حياة المصريين .. لقد وجد الرجل نفسه امام قرار شعبى بأن يتولى المسئولية وشهد الشارع المصرى احداثا دامية ما بين العنف والفوضى والإرهاب .. وأمام ظروف اقتصادية قاسية وجماعة تخلت عن كل مشاعر الانتماء لهذا الوطن فخرجت تحرق كل شئ فيه .. جامعات تحترق وشوارع يسكنها الصخب وانتاج توقف ومؤسسات تعانى حالة من الشلل وجيش يحارب بضراوة فلول الإرهاب فى سيناء وجهاز امن تحاصره المؤامرات من كل جانب وعالم ينتظر نهاية المواجهة لكى يبدأ مشروع التقسيم فى المنطقة كلها على اطلال اوطان وشعوب تضيع .. هذه الأحداث التى شهدتها مصر بكل مؤسساتها كانت تمثل عبئا ثقيلا على كل مصرى فما بالك إذا كان هذا المصرى هو رئيس الدولة وصاحب القرار فيها وسوف يحاسب اولا امام شعبه ثم يحاسب امام التاريخ حين يقول كلمته ..
< لقد تعامل المستشار عدلى منصور مع هذا الواقع الصعب بهدوء وحكمة وكان الصدق واضحا فى كل مواقفه وسلوكياته .. ان الرئيس عدلى منصور الآن وهو يغادر قصر الرئاسة سيكون الرئيس رقم 6 فى سلسلة الرؤساء الذين حكموا مصر منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الأن وسوف يحتل مكانة مضيئة رغم الأشهر القليلة التى تولى فيها مسئولية هذا المنصب لأن العبرة ليست بالبقاء طويلا ولكن العبرة بالحكمة والأمانة وشفافية القرار.
سيكون الرئيس المؤقت عدلى منصور اول رئيس فى تاريخ مصر الحديث يترك القصر الرئاسى مختارا لينضم الى صفوف المواطنين العاديين ويكمل حياته كما احب وكما اراد . هذه كلمة عرفان ووفاء وحب من مواطن مصرى لرجل جليل قبل ان يترك موقعه وقد ادى دوره بكل الشرف والنبل والأمانة .. فى خدمة مصرنا الغالية
..ويبقى الشعر
مَا زلتُ أركضُ فى حمَى كلماتِـى
الشِّعْرُ تاجى والمدَى ملكاتـــــِى
أهْفو إلى الزَّمَـن الجميـــل يهُزُّنـــى
صخبُ الجيَاِد وفرحة ُ الرَّايَاتِ
مازلتُ كالقدِّيـــس أنشـــرُ دعوَتِـــى
وأبشِّـــرُ الدُّنيَــــــا بصُبْـــح ٍ آتِ
مازلتُ كالطفـل الصَّغيــــر إذا بَـــدَا
طيفُ الحنـَان يذوبُ فى لحظاتِ
مَازلتُ أعْشقُ رغْـــمَ أن هزَائمــــِى
فى العشْق كانتْ دائمًا مأسَاتِـــى
وغزوتُ آفاقَ الجمَــــال ولم يـــزلْ
الشِّعْرُ عندى أجملَ الغـــــزوَاتِ
واخترتُ يوْمًا أن أحلـقَ فى المـــدَى
ويحُومُ غيْرى فى دُجَى الظلمَاتِ
كمْ زارنِى شبحٌ مخيـفٌ صــــــامتٌ
كمْ دارَ فى رأسى وحَاصَر ذاتِى
وأظلُّ أجــرى ثمَّ أهــــربُ خائفـــــًا
وأراهُ خلفِى زائغَ النـَّظــــــــراتِ
قد عشْتُ أخشَى كل ضيْـفٍ قـــــادم ٍ
وأخافُ منْ سفهِ الزمان الـْعَــاتى
وأخافُ أيَّـامَ الخريـــــفِ إذا غــــدتْ
طيفـًا يُطاردُنِـى علــــى المـــرْآةِ
مَازلتُ رغمَ العُمْر أشعُــــرُ أننِـــــى
كالطفـْـل حينَ تزُورُنــى هفوَاتِى
عنـْدى يقيــــنٌ أنَّ رحْمَــة خالِقِـــــى
ستكونُ أكبرَ منْ ذنوب حَيَاتِـــى
سافرتُ فى كلِّ البـــــــلادِ ولـمْ أجــدْ
قلبـًا يلملمُ حيرَتــــى وشتــاتِـــى
كم لاحَ وجهـــــكِ فى المنام وزارنِى
وأضاءَ كالقنديل فــى شرُفاتِـــى
وأمامِــــى الذكرَى وعطرُكَ والمـنىَ
وجوانحٌ صارتْ بــــلا نبضــاتِ
ما أقصــــرَ الزمنَ الجميلَ سحابــــة ً
عبرتْ خريفَ العمْر كالنـَّسَمَـات
وتناثرتْ عطـــرًا علـى أيَّــــامنـــــَا
وتكسَّرتْ كالضَّوْء فـى لحَظــاتِ
ما أصعبَ الدُّنيـــا رحيـــلا ًدائمــــًا
سئمتْ خطاهُ عقاربُ السَّاعَـــاتِ
آمنتُ فى عينيـــكِ أنـَّـكِ موطِنِــــــى
وقرأتُ اسْمكِ عنــدَ كلِّ صَــــلاةِ
كانتْ مرايَا العمْر تجْـــرى خلفنـَـــا
وتدُورُ ترْسُمُ فى المدَى خطواتِى
شاهدتُ فى دَنـَـــس البلاطِ معابـــدًا
تتلى بهَا الآياتُ فـــى الحانـــاتِ
ورأيتُ نفْسِــى فى الهواءِ مُعلقــــــًا
الأرضُ تلقينـِـى إلـى السَّمَــواتِ
ورأيـــتُ أقدارَ الشعُـــــوبِ كلعبـــةٍ
يلهُو بهَــا الكهَّــانُ فى الـْبَـاراتِ
ورأيْـتُ أصنــــامًا تغيِّـرُ جلـــدهَــــا
فى اليـوْم آلافـــًا مـــن المـــرَّاتِ
ورأيـتُ مـنْ يمشِــى علـــى أحلامِـهِ
وكأنـَّهَــا جُــثثٌ مـــن الأمـــوَاتِ
ورأيتُ منْ باعُوا ومنْ هجرُوا وَمَنْ
صلبـُوا جنينَ الحبِّ فى الطـُّرُقاتِ
آمـــنتُ بالإنْـسَــــان عُمــــْرى كلـــهُ
ورسمتـُـهُ تاجـًـا علـى أبيـاتِــــى
هوَ سيِّدُ الدُّنـْيـــا وفجْــــرُ زمَانهَــــــا
سرُّ الإلـهِ وأقــدسُ الغــــَايَــــاتِ
هو إنْ سمَا يغدُو كنجم مبْــهر
وإذا هوَي ينحط ُّ كالحشـــــراتِ
هلْ يسْتوي يومٌ بكيتُ لفقـــــــــْدهِ
وعذابُ يوم ٍ جاءَ بالحسرَاتِ ؟!
هلْ يستـَوي صُبحٌ أضاءَ طريقنـَا
وظلامُ ليْـل مَر باللعنـــــــاتِ ؟!
هلْ يستوي نهرٌ بخيلٌ جَاحـــــــــدٌ
وعطاءُ نهْر فاضَ بالخيرَاتِ ؟!
أيقنتُ أنَّ الشـِّعْر شاطئُ رحْـلتــــِي
وبأنهُ عندَ الهلاكِ نجَاتِــــــــــي
فزهدتُ في ذهبِ المعزِّ وسيفــــــهِ
وكرهتُ بطشَ المسْتبدِّ الـعَاتـــِي
وكرهتُ في ذهبِ المعزِّ ضـــــلالهُ
وخشيتُ من سيْف المعــزِّ ممَاتِي
ورفضتُ أن أحْيا خيَالا ًصــــــامتـًا
أو صَفحة تطوَي معَ الصفحَـــــاتِ
واخترتُ من صَخبِ المزادِ قصَائِدِي
وَرَفضتُ سوقَ البيْع والصَّفقـَاتِ
قدْ لا يكونُ الشِّعرُ حِصْنـــــًا آمنـــــًا
لكنهُ مجْدٌ .. بلا شـُبُهــــــــــــاتِ
والآنَ أشعرُ أن آخرَ رحْـلتِــــــــــــي
ستكونُ في شِعْري وفي صرَخَاتِي
تحْت الترابِ ستختفي ألقابُنــــــــــــا
لا شئَ يبْــقي غيرُ طيفِ رفـــــاتِ
تتشابكُ الأيدي .. وتنسحبُ الــــرُّوي
ويتوهُ ضوْءُ الفجْر في الظلـُمـــاتِ
وتري الوُجُوه علي التـُّراب كأنــــــهَا
وشمٌ يصَافحُ كلَّ وشـْــــــــــــم آتِ
مَاذا سَيبقي منْ بريق عُيُوننـــــــــــا ؟
لا شئَ غير الصمْتِ والعَبَــــــراتِ
ماذا سَيَبقي من جَوادٍ جـــــــــــــامح ٍ
غيْرُ البكاء المرِّ.. والضَّحكـــــاتِ؟
أنا زاهدٌ في كلِّ شيْء بعْدَمــــــــــــَا ..
اخترتُ شعْري واحتميتُ بذاتِـــــي
زينتُ أيَّامي بغنوةِ عاشِــــــــــق
وأضعتُ في عشـْق الجْمال حَيَاتي
وحلمتُ يَوْمًا أن أراكِ مَدينتـــي
فوق السَّحاب عزيزة الرَّايَــــــــاتِ
ورَسَمتُ أسرابَ الجمْال كأنـَّها
بينَ القلوب مواكبُ الصَّــــــــلواتِ
قد قلتُ ما عندِي ويكفي أنني
واجَهْتُ عصْرَ الزَّيْف بالكلِمــــاتِ