فاروق جويدة
لا اعتقد ان الرئيس السيسى يبدأ رحلته فى حكم مصر من فراغ فهو يحمل رصيدا كبيرا من الخبرة ومعرفة شئون الدولة المصرية .. فقد قضى عاما كاملا قائدا ووزيرا لأهم واخطر مؤسسات الدولة وهى وزارة الدفاع وحقق فيها انجازات شهد بها الجميع .. ثم قضى عاما آخرا مسئولا فى مرحلة من اخطر واهم المراحل التى مرت بها مصر فى عصرها الحديث بعد ثورة 30 يونيه .. وقبل هذا كله فقد شغل موقعا من المواقع الحساسة جدا وهو المخابرات الحربية ..
< ان هذا يعنى ان الرجل لم يكن يوما بعيدا عن سلطة القرار وان اختلفت درجة الأهمية والمسئولية .. نحن امام رئيس جديد جاء بإرادة شعبية وخرج من بين جموع هذا الشعب ولم يكن يوما محسوبا على تيار سياسى او طبقة اجتماعية او حزب من الأحزاب .. ان ماضيه لا يحمل اى شوائب تاريخية فهو منسوب لأكبر مؤسسة نظامية فى مصر لها تاريخ حافل فى خدمة هذا الوطن.
< ان الشئ المؤكد ان الرئيس السيسى يعلم الكثير عن مشاكل وازمات المصريين وهو يدرك حجم معاناتهم وقبل هذا كله كان شاهدا على اخطاء كثيرة شاءت إرادة الله ان يكون المنقذ والمخلص منها فى نظر ملايين المصريين ..
< ان امام الرئيس الجديد، من حيث البداية تجربتين فاشلتين فى الحكم، بقيت الأولى ثلاثين عاما ولم تستطع حتى الأن ان تبرئ نفسها من قضايا الفساد والمال الضائع والشعب المقهور .. وهناك تجربة ثانية كان السيسى نفسه رأس الحربة التى تصدت لها وهى تحمل وطنا بالكامل الى متاحف التاريخ بكل تراثه ورصيده الحضارى والإنسانى .. هنا لا بد ان نقول للرئيس الجديد انك تعرف اخطاء من كانوا قبلك وعليك ان تستوعب تلك الدروس حتى لا تتكرر مآسينا..
< لقد سقطت تجربة الثلاثين عاما فى يد مجموعة من المنتفعين واصحاب المصالح وضيعت على الشعب المصرى فرصا كثيرة للتطور والبناء وتحقيق العدالة وكانت النتيجة ان وجدنا مجتمعا يشبه ما كان قبل ثورة يوليو حيث تنعم فئة قليلة من الناس بخيرات وطن بينما يجلس الشعب كله فى انتظار ما لا يجئ.
< ثلاثون عاما تبخرت فيها ثروات مصر وتسللت الى حسابات عدد من الأشخاص فكانت فوضى الاستيلاء على اراضى الدولة وبيع القطاع العام وبيع مؤسسات الدولة فى جريمة تسمى الخصخصة، وهذا الكم الرهيب من الديون وتبخرت المعونات الخارجية من الغرب والدول الشقيقة وهاجرت الى البنوك الخارجية بلايين الدولارات فى ظل مواكب من الفساد جعلت كل مسئول يتصور ان مال الشعب حق مستباح له .
< حتى الأن لا احد يعلم ارصدة هؤلاء فى الخارج وهل يمكن استردادها ام انه فات الأوان.
< ان الرئيس السيسى يعلم حالة التجريف الإنسانى والفكرى والثقافى التى شهدتها مصر واهدرت كل مقوماتها البشرية حيث جردتها من كل المواهب والخبرات امام مواكب المتسلقين والأدعياء واهل الثقة واجيال لم تنجز فى حياتها شيئا، فمن كان عمره ثلاثين عاما فى بداية الثمانينات وجد نفسه يحتفل بالخروج الى المعاش مع ثورة يناير 2011 ولم يحقق فى حياته شيئا، هذه التجارب القاسية يجب ان تتصدر قائمة الاهتمامات .
< وإذا انتقلنا الى عام الفشل مع الإخوان المسلمين فقد كانت تجربة مريرة فى حياة المصريين كان السيسى فى طليعة من تصدى لها مع جموع الشعب حين وجدنا التقسيمات تعصف بكيان الأمة حتى وصل الأمر الى مؤمن وكافر، ووجدنا مصر الثقافة والفكر والحضارة تندفع الى مصير مجهول من الجهل والتخلف ووجدنا جماعة تعيش القرون الوسطى وهى تسطو على اكبر دولة عربية لتحمل المنطقة كلها الى سراديب مظلمة من دعاوى الإيمان الكاذب والفكر المشوه ووجدنا رئيسا تحيط به جماعة لا تصلح لإدارة شئون حى من الأحياء وهى تدفع بالمجتمع كله الى هاوية سحيقة من الفراغ فى الفكر والدين والحياة.
< لقد شاهدت يا سيادة الرئيس بنفسك هذه التجارب وانت تعرف كل اخطائها والشئ المؤكد انك بحسك الوطنى الصادق وايمانك بهذا الشعب وحرصك عليه لن تترك السفينة تعيش محنة الماضى وانت ربانها.
< ان تجربتين فاشلتين كافيتين لاستيعاب دروس الماضى وعدم تكرار الأخطاء ..
هناك قضايا عاجلة وقضايا اخرى مؤجلة .. يخطئ من يتصور ان مع الرئيس الجديد عصا سحرية سوف تحل كل المشاكل والأزمات ..
< ان الأمن لا يعنى فقط انضباط الشارع المصرى ولكنه يعنى وقف الإنفلات الأخلاقى والسلوكى الذى ساد حياة الناس بعد ثورتين .. إذا كان فى السجون رئيسيان فلا يعقل ان تعجز الدولة عن تنفيذ القانون وفرض هيبته على المواطنين ..
ان الأمن يعنى عودة السياحة وهذا بند خطير فى المعادلة الإقتصادية .. والأمن يعنى ايضا مواجهة حالة الشطط والانفلات التى دمرت حياة المواطن المصرى .. والأمن يعنى ايضا استمرار الحرب والمواجهة مع الإرهاب لأنها معركة مصيرية وما انجزناه فيها حتى الأن يؤكد انها فى طريق النهاية، ان الأمن يعنى ايضا انتظام المرور فى الشوارع .. وإيجاد حل للباعة الجائلين الذين شوهوا كل المدن ومواجهة ظاهرة اطفال الشوارع والبحث عن اسرهم ومن يقفون خلفهم من تجار البلطجة .. ان الأمن ايضا يعنى إعلان الحرب على تجارة المخدرات التى دمرت اجيالنا فى سنوات الانفلات واصبحت تجارة مشروعة، هذا الدمار الذى يلحق بشبابنا كل يوم يدمر اجيالا ويحرم مصر من زهرة ابنائها ويلقى بنا جميعا الى سرداب مظلم من التخلف والضياع.
< من القضايا العاجلة ايضا احتضان قدرات الشباب الذين فرقتهم السياسة وتحولوا الى كتائب وميليشيات تحت دعاوى دينية مريضة خربت عقولهم او انقسامات ايدلوجية حملت لهم شعارات مضللة .. ان شباب مصر ـ وهو ثروتها الحقيقية ـ يعانى ظروفا صعبة وانقسامات خطيرة ولا بد ان توفر له الدولة مناخا سياسيا رشيدا ليعبر عن فكره ورأيه وطموحاته.. ان التجارب السابقة فى الحكم فشلت فى استيعاب جموع الشباب واحلامهم حين حولتهم الى اعداء وحرمتهم من كل فرص النجاح والتفوق وجعلت التميز ميراثا لأبناء مجموعة من اصحاب المصالح الذين استولوا على كل شئ وحرموا بقية المجتمع من اى شئ.
< سوف تبقى قضية الشباب لغما خطيرا يهدد مستقبل هذا الوطن .. وإذا استعرضنا قائمة الأزمات ونحن نتحدث عن الشباب سوف تطل امامنا قضية البطالة والملايين الذين لا يعملون وهم فى اقل التقديرات 13 مليون شاب .. وسوف تطل علينا ازمة الفراغ السياسى ومأساة النخبة التى لم تستطع ان تحتل شبرا واحدا فى الشارع المصرى فى ثلاث سنوات .. وسوف نجد ازمة الثقافة لدى الأجيال الجديدة ابتداء بالخطاب الدينى المشوه وانتهاء بوسائل الاتصال الحديثة وما تركته من مظاهر الخلل والإرتباك والشطط فى مكونات الأجيال الجديدة .. ان الأزمة الحقيقية التى يعيشها شباب مصر انه تائه فى فراغ سحيق ولا يجد من يلجأ اليه.
< وسط هذه الأزمات لا نستطيع ان نتجاهل الإعلام المصرى وقد تحول الى وحش كاسر مثل إنسان حاول تربية اسد صغير فى بيته وكبر الأسد وحاول ان يأكل صاحبه .. هذا ما يحدث فى الإعلام المصرى الأن وقد تضخم دوره وحجمه واصبح يرى نفسه اهم من الدولة و اكبر من الحكومة واخطر من الشعب ايضا .. الإعلام المصرى جواد بلا فارس يقتحم كل شئ بلا حسابات والمطلوب ان تكون له ضوابط يعرف بها طريقه الى الانصاف والحكمة .
< كل هذه القضايا لا بد وان تدور وتتوقف امام ازمة الأزمات ومشكلة المشاكل وهم اكبر احزاب مصر وهو حزب الفقراء .. اننى على يقين ان الرئيس الجديد يدرك حجم هذه المأساة وهى تحتل مكانة واهمية خاصة فى فكره .. ولا اعتقد ان حزب الفقراء يحتاج الى ابحاث ودراسات لأن الذهاب الى احدى العشوائيات ومشاهدة احوال الناس فيها يغنى عن ذلك كله .. ولكن لا يمكن ان نتحدث عن مشكلة الفقر فى مصر ونتجاهل قضية الأمية لأنها تترك آثارها على درجة السلوك والوعى والأخلاق والتدين الزائف وتترك آثارها على المشاركة السياسية والتصويت فى الانتخابات والمشاركة فى التظاهرات والانتماء السياسى وحدود المشاركة .. ان حزب الفقراء يعانى ظروفا اقتصادية صعبة فى العلاج والمسكن والطعام والمياه والمجارى والكهرباء وتوافر ضرورات الحياة ولكن حين يضاف الجهل الى هذه المنظومة السيئة فإنها تتحول الى كارثة ..
< ان الرئيس الجديد يعلم قبل ان يصل الى هذا المنصب انه يخوض معركة ضارية ضد سنوات من النهب والفساد والتخلف وان امامه قائمة طويلة من المخاطر والأزمات وقد ألقى على الشعب مسئولية المشاركة لأنه فى النهاية لا يستطيع ان يخوض المعركة وحده .. ولا يوجد حاكم فى الأرض انقذ شعبا دون ان يشاركه الشعب المسئولية والأعباء .. نحن امام حزب كبير من الفقراء، هو اكبر احزاب مصر، وخلف هذا الحزب قائمة طويلة من العشوائيات بما فيها البطالة والأمية والمخدرات والفوضى واطفال الشوارع ..
< على الجانب الآخر نحن امام قضايا الفساد فى الشارع وفى مؤسسات الدولة وفى الأموال الهاربة ونزيف الإنفاق الحكومى الذى لا يعرف شيئا عن الضوابط او المسئولية .. وقبل هذا كله هناك ملفات خطيرة عن قضايا فساد مؤجلة وجاء الوقت لكى يقول القضاء فيها كلمته بالعفو او الإدانة .. ان العدالة البطيئة أسوأ انواع الظلم وينبغى ان تكون يد العدالة حاسمة حتى نقطع يد الفساد إذا كنا فعلا جادين فى مواجهته .. يدخل فى هذا الإطار ملفات الأموال الهاربة سواء كانت فى الداخل او الخارج لأن تاجيل هذه الملفات يفتح ابوابا كثيرة للظنون والهواجس وفى النهاية هذا الشعب احق بأمواله .
< لقد وصل الرئيس السيسى الى السلطة واصبح رئيسا لمصر ولا شك انه وسط هذه الأزمات يحمل اشياء كثيرة .. ان لديه خبرة واسعة فى الإدارة فى اكثر من موقع ويكفى انه ادار بحكمه شئون الجيش المصرى اكبر مؤسسات مصر وانتقل به خلال عام واحد الى آفاق غير مسبوقة فى الإلتزام والأداء والكفاءة .. وكان شاهدا على تجربتين فاشلتين فى الحكم.. وقبل هذا كله انه يحمل رصيدا شعبيا كبيرا ليس فقط فى ملايين الأصوات التى حصل عليها فى الانتخابات ولكن فى الملايين الذين لبوا دعوته يوم 30 يونيه حين خاض مع الشعب معركة ضارية من اجل مستقبل مصر .. على الشعب ان يسانده ويقف خلفه وعليه هو نفسه ان يستعد لمواجهة شرسة مع ازمات مجتمع تخلف كثيرا .. وقبل هذا عليه ان يواجه التاريخ وماذا سيقول عنه حين يجئ وقت الحساب .
اننى اشفق على الرئيس الجديد من اعباء المسئولية وهى ضخمة واحلام الشعب فيه وهى واسعة، والمتربصين له فى اكثر من مكان وقاه الله شرهم.
ان الملايين التى وضعت ثقتها فى عبد الفتاح السيسى واختارته رئيسا لن تتخلى عنه وهو يخوض معركة ضارية ضد الإرهاب والتخلف والفساد وبناء مصر الجديدة .. قلوب المصريين معه .. والله يوفقه ويرعاه.
..ويبقى الشعر
فلتسألوا التاريخَ عنِّي
كلُّ مجدٍ تحت أقدامي ابتدا ..
أنا صانعُ المجدِ العريقِ ولم أزل
في كلِّ رُكنٍ في الوجودِ مُخلَّدا ..
أنا صحوةُ الانسانِ في ركبِ الخُلودِ
فكيفَ ضاعَت كلُّ أمجادي سُدَى ..
زالت شعوبٌ وانطوَتْ أخبارُها
وبقيتُ في الزَّمنِ المكابِرِ سيِّدا ..
كم طافَ هذا الكونُ حولي
كنتُ قُدّاساً .. وكنتُ المَعبدا ..
حتى أطَلَّ ضياءُ خيرِ الخَلقِ
فانتفَضَت ربوعي خشيةً
وغدوتُ للحقِّ المثابرِ مسجدا ..
يا أيُّها الزَّمنُ المشوَّهُ
لن تراني بعدَ هذا اليومِ وجهاً جامِدا .. قولوا لهُم
إنَّ الحجارةَ أعلنَت عِصيانَها
والصامِتُ المهمومُ
في القيدِ الثقيلِ تمرَّدا ..
سأعودُ فوقَ مياهِ هذا النَّهرِ طيراً مُنشِدا ..
سأعودُ يوماً حينَ يغتسلُ الصباحُ
البكرُ في عينِ النَّدى ..
قولوا لهُم
بينَ الحجارةِ عاشقٌ
عرِفَ اليقينَ على ضفافِ النيلِ يوماً فاهتدى ..
وأحبَّهُ حتى تَلاشَى فيهِ
لم يعرِف لهذا الحبِّ عُمراً أو مدى ..
فأحبَّهُ في كلِّ شئ ٍ
في ليالي الفرحِ في طعمِ الرَّدَى ..
مَن كانَ مثلي لا يموتُ وإنْ تغيَّرَ حالُهُ
وبدا عليهِ .. ما بدا ..
بعضُ الحجارةِ كالشموس ِ
يَغيبُ حيناً ضوؤُها
حتى إذا سَقَطَت قِلاعُ الليلِ وانكسرَ الدُّجى
جاءَ الضياءُ مغرِّدا ..
سيظلُّ شئٌ في ضميرِ الكونِ يُشعِرُني
بأنَّ الصُّبحَ آتٍ .. أنَّ موعِدهُ غدا ..
ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا ..
ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا ..
«من قصيدة حتى الحجارة اعلنت عصيانها سنة 1998»