بقلم : محمد سلماوى
يخطيء من يتصور أن الصراع الحالى الذى تشهده الحياة السياسية فى الولايات المتحدة هو بين الرئيس الجالس فى البيت الأبيض والمؤسسة الصحفية الأمريكية، فقد نجح الرئيس دونالد ترامب خلال فترة وجيزة من توليه الحكم فى استعداء دائرة واسعة من الأطراف المحلية والدولية لا يستثنى منها إلا الدوائر الصهيونية فى الداخل ودولة إسرائيل فى الخارج.
وربما كان الصراع بين ترامب والصحافة الأمريكية هو الأوضح فى المشهد السياسى الأمريكى بسبب علنيته ومتابعة تطوراته يوما بيوم على صفحات الجرائد، وفى مختلف القنوات التليفزيونية, ولا شك أن صدور كتاب بوب وودوارد «الأخيراالخوفى» قد ركز الأنظار على الصراع بين البيت الأبيض والصحافة، خاصة وقد سبق صدور الكتاب حملة دعاية مكثفة نشرت خلالها جريدة «الواشنطن بوست» بعض فصول من الكتاب ضمت وقائع أذهلت القراء، ولأول مرة تضمنت الحملة تسجيلا لترامب نفسه مع الصحفى المخضرم مؤلف الكتاب يعاتبه فيه على أنه لم يتصل به لمعرفة وجهة النظر الأخرى، ويرد فيه وودوارد معددا المرات والأشخاص الذين حاول الوصول إليه من خلالهم، ومما يستلفت النظر فى هذا التسجيل الاحترام الشديد الذى يتحدث به وودوارد وهو الاحترام الواجب لرئيس الجمهورية حتى لو كان المتحدث معارضا له، وحرص وودوارد على إخطار محدثه بأنه يقوم بتسجيل المكالمة.
إن أزمة ترامب فى الحقيقة تتعدى كثيرا وسائل الإعلام لتضم فى الداخل جميع تجمعات الأقليات من مكسيكيين ومسلمين وسود، بالإضافة للمهاجرين على مختلف أشكالهم، كما تضم الوسط السياسى نفسه ليس فقط داخل الحزب الديمقراطى المعارض وانما داخل الحزب الجمهورى نفسه، أما على الصعيد الدولى فتضم القائمة عددا كبيرا من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين مثل كندا وبريطانيا، بالإضافة بالطبع للعرب الذين يستثنى منهم بعض الحكام، وسائر دول العالم الثالث.
ولقد برع ترامب خلال حملته الانتخابية فى اللعب على مشاعر الرأى العام الأمريكى، خاصة غير المسيس منه، بإثارة نعرة وطنية زائفة، واستنهاض روح رعاة البقر فى مواجهة الهنود الحمر التى تربى الأمريكيون على أفلامها منذ الصغر، وقد جاء ذلك بعد تعرض الولايات المتحدة لهجمات موجعة مثل اعتداءات 11 سبتمبر وفشل حرب العراق وفضائح جوانتانامو وغيرها، لكن أقوى أسلحة ترامب كان استغلاله رفض الرأى العام المؤسسة السياسية الأمريكية، فى الوقت الذى كانت منافسته هيلارى كلينتون هى التجسيد الحى لتلك المؤسسة.
وهكذا كان الطريق الذى اختاره ترامب والمنهج الذى اتبعه طريقا كارثيا ومنهجه محكوما بالفشل، ذلك أن معارضته لجميع الأوضاع القائمة، ولجميع الدوائر الفاعلة، فتح أمامه جميع جبهات الصراع بلا استثناء، فكان عليه أن يحارب معاركه كلها فى وقت واحد، فقط الجبهة اليهودية التى تضم جماعات الضغط الصهيونية، تم استثناؤها فلم يتعرض لها ترامب من قريب أو بعيد، ولم يواجهها فى أى من معاركه ولا وجه لها أى نقد، منذ دخل البيت الأبيض فى يناير 2016، بل نجد أن ترامب قد ارتمى فى أحضان تلك الجماعات، وربما كان قرار تسمية القدس المحتلة بالعاصمة الأبدية لإسرائيل هو أوضح مثال على ذلك، فمثل هذه الخطوة التى أحجم عنها جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين تظهر بوضوح حالة الوهن التى وصل إليها ترامب فى مواجهة جميع القوى السياسية فى الداخل والخارج، وفى نفس الوقت وجدنا الدوائر اليهودية الأمريكية أقل الجهات انتقادا لترامب، وإن سايرت قليلا الاتجاه العام للسخرية منه، فتصاعد مثل هذه السخرية لا يضر، بل يجعل ترامب أكثر احتياجا لدعم الدوائر اليهودية الفاعلة.
وقد كنا نتصور أن نقل السفارة الأمريكية الى القدس المحتلة هو أقصى ما يستطيعه ترامب لإرضاء اليهود، لكننا فوجئنا منذ أيام بهذا القرار غير الانسانى الذى منع المساعدات الأمريكية عن منظمة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والمسئولة عن إعاشة ما لا يقل عن خمسة ملايين لاجيء فلسطينى، ومثل هذا القرار هو بمثابة التصفية الجسدية للاجئين الفلسطينيين الذين يعتمدون على دعم الأمم المتحدة للبقاء على قيد الحياة، وهو فى ذلك لا يختلف عن قرار هتلر تصفية اليهود إبان الحرب العالمية الأخيرة والذى سماه الحل الأخير باعتباره ينهى المشكلة اليهودية إلى الأبد كما أراد ترامب إنهاء المشكلة الفلسطينية.
ومن أقوال دافيد بن جوريون المعروفة عن اللاجئين: الكبار سيموتون والصغار سينسون!. وإذا كان الحلم الفلسطينى مازال يعيش فى قلوب أبناء الشعب الفلسطينى بعد مرور 70 سنة على مقولة مؤسس دولة إسرائيل فإن قادة الدولة اليهودية يجدون صعوبة فى القبول به، لذلك فهم يرجعون سبب استمرار حلم العودة لدى الأجيال الجديدة من الفلسطينيين الى وجود وكالة غوث اللاجئين التى تذكرهم بالمعونة التى تقدمها لهم بأنهم لاجئون فى غير أوطانهم، ومن هنا فإن وقف هذا الدعم يجعلهم ينسون الحلم وينخرطون فى الواقع المتاح أمامهم، ومثل هذا المنطق يقوم على مغالطات صارخة، ذلك أن الكثير من اللاجئين لا يملكون وسيلة للبقاء على قيد الحياة غير الدعم الذى تقدمه لهم الوكالة، فهم غير مسموح لهم بالحصول على جنسية الدول التى يعيشون فيها وغير مسموح لهم بالعمل فيها، وهو ما يجعلهم يعيشون على هامش الدول التى يقيمون فيها، أضف الى ذلك رفض إسرائيل منحهم حق العودة الى وطنهم الأصلى ليتضح أن الهدف من وراء وقف المعونات الأمريكية والتى تبلغ قيمتها 350 مليون دولار سنويا هو أن يقدم ترامب لإسرائيل الحل النهائى لأزمة اللاجئين الفلسطينيين، وبعد ذلك لن يكون لإسرائيل حاجة الى دونالد ترامب، ومن غير المستبعد أن نجد الجماعات اليهودية داخل الولايات المتحدة وقد انضمت لبقية الأمريكيين الذين يطالبون بمحاكمته أو عزله قبل أن يتم مدة رئاسته الأولى.
نقلاً عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع