ما الذى حدث لنا بحيث أصبحنا لا نرى ولا ننشغل إلا بما تحت أقدامنا غافلين أو غير مكترثين لما يحدث فى العالم من حولنا؟ إن من يتابع إعلامنا المرئى أو المقروء يشعر أننا نعيش فى قرية صغيرة منعزلة باهتماماتها الداخلية عما يحدث فى العالم، لكن ماذا لو كان ما يحدث فى العالم يخص قضايانا الكبرى؟!
لقد وجه إلى أحد الصحفيين الفرنسيين فى أثناء وجودى فى الخارج سؤال مؤلم عن القضية الفلسطينية التى نؤكد ليل نهار أنها قضيتنا المصيرية فقال: هل تساوت الآن القضية الفلسطينية عند العرب مع حلم الأندلس؟ فقلت إن هناك فارقا كبيرا بين الاثنين فمسألة الأندلس تتعلق بأرض غير عربية دخلها العرب وأقاموا فيها حضارة عظيمة يشهد لها التاريخ، أما القضية الفلسطينية فهى قضية شعب طرد من أرضه وصودرت ممتلكاته وهو يتعرض الآن لحرب إبادة شرسة، وإذا كان حلم القدس ليس له أنصار فى العالم فإن القضية الفلسطينية قضية إنسانية يزداد أنصارها فى العالم يوما بعد يوم، مهما انشغل عنها العرب بقضاياهم المحلية الصغيرة.
تذكرت ذلك وأنا أتصفح جرائدنا هذا الأسبوع التى لم تنشغل إلا بذلك القرار العبثى الذى أصدرته وزيرة الصحة بضرورة إذاعة السلام الجمهورى فى المستشفيات الحكومية (!)، وبقضية خطف الأطفال من الأحياء الثرية للمطالبة بفدية، وطبعا بقضية خسارتنا المؤسفة فى بطولة العالم فى كرة القدم، وهى كلها قضايا ينبغى الاهتمام بها ما من شك، لكن أن تصبح وحدها هى مركز اهتمام الصحافة والإعلام، فذلك يعكس خللا فى رؤيتنا للعالم يكرسه الإعلام فى وعى المواطنين، بينما يموج العالم من حولنا بأحداث مهمة ومؤثرة يكاد لا يأتى لها ذكر فى الصحف.
لقد تابعت فى نفس الوقت فى الصحف الأجنبية عدة موضوعات تتعلق بنا بشكل مباشر لكنى لم أجد لها ذكرا فى صحفنا، منها قراران يتصلان بالقضية الفلسطينية التى يتصور البعض أنها نسيت أو تحولت الى حلم قديم غير قابل للتحقيق، ففى أيرلندا أصدر البرلمان لأول مرة قانونا يحظر كل النشاط التجارى الإسرائيلى القادم من المستوطنات غير الشرعية المقامة فى الأراض العربية المحتلة، ورغم محاولات الحكومة عرقلة القانون فى البرلمان إلا أنه حصل على الأغلبية المطلوبة لتمريره فصار الآن نافذا.
إن هذا القرار هو الأول من نوعه فى العالم وهو يمثل تطورا غاية فى الأهمية بالنسبة لقضية نصفها بأنها مصيرية، لقد كانت هناك فى السنوات الأخيرة بعض الحركات السياسية فى الغرب التى كانت تدعو لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، لكن تلك هى المرة الأولى التى يتحول فيها هذا النداء الى قانون نافذ يسرى على التعامل التجارى الرسمى لإحدى الدول، فكيف لا نسمع بذلك عندنا؟!
فى نفس الوقت أصدر حزب العمال البريطانى قرارا غير مسبوق يؤكد أن انتقاد إسرائيل ليس عداء للسامية، وتلك أيضا هى المرة الأولى التى يتم فيها على هذا المستوى السياسى فض التطابق الذى كرسته الصهيونية الدولية بين إسرائيل والسامية، وقد جاء قرار الحزب البريطانى ليجرد إسرائيل من أحد أهم أسلحتها والتى استخدمتها دون هوادة فى مواجهة كل من يتجرأ على التعرض لسياستها العنصرية، فكيف يمر ذلك علينا مرور الكرام؟!
أما التطور الأكبر الذى غفله إعلامنا، فهو مشروع القانون المعروض الآن على البرلمان الإسرائيلى لإقراره والذى يجرم تصوير أفراد جيش الاحتلال أو توثيق أعماله الوحشية ضد الفلسطينيين، وهو قانون غير مسبوق فى العالم ينتهك كل الحريات، من حرية الصحافة الى حرية التعبير، بل وينتهك أسس الديمقراطية ذاتها والتى تفاخر بها إسرائيل مدعية أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة.
لقد سعت إسرائيل طوال السنوات الماضية لفرض الرقابة على الصحفيين الأجانب فيما ينقلونه من أخبار عن التطهير العرقى الذى تمارسه ضد الشعب الفلسطينى، وقد استخدمت فى ذلك شتى القيود المسموح بها فى حالة الحرب بحيث لم يعد مسموحا للمراسل الأجنبى أن يبعث بتقرير الى جريدته فى الخارج دون أن يحصل على موافقة السلطات العسكرية، لكن ظلت الصورة هى الأكثر تأثيرا، وتلك لا يمكن العبث بها بنفس السهولة التى تتحكم فى الأخبار فتحول الشعب المحتل إلى جماعة إرهابية تعتدى على دولة تسعى للعيش فى سلام.
لقد انتشرت عام 2016 صورة الجندى الإسرائيلى إيلور أزاريا الذى صوب بندقيته الى أحد الجرحى من الشباب الفلسطينى المتظاهرين سلميا فقتله بدم بارد رغم أنه كان أعزل وغير قادر على الحركة، وقد سبب هذا الفيلم حرجا شديدا لإسرائيل فاضطرت للتحقيق معه والحكم عليه بالسجن لبضعة شهور وهو ما لم يحدث فى تاريخ الجيش الإسرائيلى من قبل. من هنا جاء هذا القانون الذى يحظر تصوير هذه المشاهد، ويلاحظ أن الجندى الذى ارتكب جريمة قتل الفلسطينى الجريح كان من نصيبه تسعة أشهر من السجن، بينما ينص القانون الجديد الذى يدعمه وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان، على الحكم بالسجن لمدة خمس سنوات على من يصور مثل هذه الجريمة، ولمدة عشر سنوات إذا أضر ذلك بالأمن القومى لإسرائيل.
إن مثل هذا القانون الفريد من نوعه يسقط عن إسرائيل على الفور رداء الديمقراطية الذى تتستر به فتروج لنفسها باعتبارها واحة الديمقراطية فى الشرق الأوسط، فكيف لا نهتم بذلك؟ وكيف لا نستخدم ذلك القانون كسلاح فعال دفع به إلينا دفعا فى معركتنا الممتدة مع إسرائيل التى ما فتئت تناصبنا العداء قبل وبعد اتفاقيات السلام التى وقعتها مع الدول العربية؟! وقبل هذا وبعده، كيف تخلو صحافتنا من هذه الأخبار التى لو أحسنا استخدامها لغيرت الكثير من قواعد اللعبة؟!
نقلاً عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع