بقلم - محمد سلماوي
مرت زيارة وزير الخارجية العُمانى يوسف بن علوى إلى المسجد الأقصى بالقدس مرور الكرام، فلم يتوقف عندها الإعلام العربى، وتجاهلها الرأى العام، رغم كونها تعتبر بكل المقاييس خطوة نادرة فى أسلوب التعامل العربى مع الاحتلال الإسرائيلى للأراض العربية، والذى اعتمد بشكل عام طوال العقود الماضية على سياسية المقاطعة.
فلم يحدث أن زار مسئول عربى على هذا المستوى الرفيع مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى إلا فى إطار زيارة رسمية لإسرائيل، كما فعل وزير الخارجية المصرى الراحل أحمد ماهر عام 2003، وكما فعل وزراء آخرون من مصر والأردن - قبله وبعده - فى إطار ما يسمى اتفاقيات السلام المبرمة مع إسرائيل، أما سلطنة عُمان فهى لا ترتبط باتفاقيات مع إسرائيل، ولم تكن زيارة وزير خارجيتها مقصودا بها إلا القدس العربية ذاتها، ولم تأت على هامش زيارة رسمية لإسرائيل، أى إنها كانت زيارة لفلسطين وليس لإسرائيل، وقد أعلنت إسرائيل فى حينها أنها لم تكن على علم مسبق بالزيارة. ولم يكن غريبا أن تأتى مثل هذه الزيارة من مسئول عُمانى، فعمان تتبع نهجا مستقلا على أكثر من مستوى، فهى على سبيل المثال الدولة الوحيدة فى شبه الجزيرة العربية التى لم تشارك فى الحرب اليمنية.
من ناحية أخرى لا يمكن الفصل بين هذه الزيارة غير المسبوقة وبين النداءات الفلسطينية المتكررة على مدى السنوات الماضية للأشقاء العرب على مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، بأن يدعموا الشعب الفلسطينى ويساندوه فى صموده ضد الاحتلال، عن طريق القيام بمثل هذه الزيارات التى تؤكد وقوفهم الى جانب الفلسطينيين فى عزلتهم داخل الدولة اليهودية، ولقد تحدث إلى الرئيس محمود عباس أكثر من مرة بأنه لا يجوز أن نجد من يدعمون القضية الفلسطينية يأتون إلى الشعب الفلسطينى من جميع أنحاء العالم ليشدوا من أزره بينما يمتنع أشقاؤه العرب عن زيارته بحجة أن زيارة الفلسطينيين فى أراضيهم تعتبر تطبيعا مع من يحتلونهم، بل قد وصل الأمر الى حد أن ضحى بعض الأجانب بحياتهم وهم يتصدون مع الفلسطينيين للجرافات الإسرائيلية التى جاءت لهدم منازلهم ومصادرة أراضيهم من أجل بناء المستوطنات للمهاجرين اليهود، وهو مشهد ظل العرب غائبين عنه تماما.
كما أذكر أنه حدثنى فى إحدى زياراته للقاهرة عن ضرورة حماية الممتلكات العربية فى القدس، وتساءل لماذا لا يقوم الأثرياء العرب بشراء تلك الممتلكات من منازل وأراض، حتى لا تقع فى أيدى سلطات الاحتلال التى تقوم بطرد ملاكها ومصادرتها ضمن مخطط شامل لتهويد المدينة المقدسة حتى تفقد هويتها العربية، وهو ما يجرى الآن على قدم وساق حيث تغيرت أسماء الأحياء والشوارع وأصبحت تحمل أسماء عبرية، كما أن المعمار العربى القديم يندثر فى القدس الشرقية وتحل محله يوميا مبان لا تمت للطابع العربى القديم بصلة، فأين العرب من كل هذا؟...
ويتصل الحديث ذاته مع العديد من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين الذين يعربون عن أملهم فى أن يشاركهم المثقفون العرب لقاءاتهم الفكرية والفنية فى المؤتمرات والمهرجانات التى تصب كلها فى النهاية فى خدمة القضية الفلسطينية، وتؤكد الهوية العربية لفلسطين، وقد تساءل أمامى الشاعر مراد السودانى رئيس اتحاد كتاب فلسطين إزاء امتناعى ذات مرة عن المشاركة فى إحدى هذه الفاعليات الثقافية فى الأرض المحتلة: لمصلحة من هذا الإصرار على عزل الشعب الفلسطينى عن أشقائه العرب؟ ويشاركه كتاب ومثقفون آخرون فى أن هذا الفصل بين الفلسطينيين والعرب إنما يخدم مخططات العدو ويرسخ قدم الاحتلال. والحقيقة أن التطورات السياسية المتلاحقة التى مرت على قضية الصراع العربى الإسرائيلى إنما تقتضى وقفة نعيد فيها تقييم سياساتنا فى مقاومة الاحتلال الإسرائيلى للاراضى العربية وكيفية التصدى له بأساليب متطورة، وأنا شخصيا ممن مازالوا بؤمنون بأن المقاطعة السياسية والثقافية تظل من أهم الأدوات السياسية المؤثرة فى المواجهة مع إسرائيل، لكن شريطة أن تتطور تلك الأداة مع تطور الأحداث حتى لا ينقلب تأثيرها علينا.
لقد مرت سياسة المقاطعة العربية لإسرائيل بتطورات عديدة منذ عام 1948، وعلينا أن نستمر فى تطويرها مواكبة للأحداث حتى نضمن فاعليتها، ففى بداية تطبيقنا سياسة المقاطعة كنا نرفض التعامل مع كل من يحمل جواز سفر الدولة اليهودية حتى لو كان فلسطينيا، ولم نكن نسمح فى مهرجاناتنا الفكرية والفنية بمشاركة عرب إسرائيل، لكننا اكتشفنا أننا بذلك إنما نعاقب الفلسطينيين الذين تمسكوا بأراضيهم ولم يتركوها، بينما هم يعانون الويلات من قوات الاحتلال، وأننا بذلك نزيد من الحصار المفروض عليهم من اسرائيل دون أن نقصد، لكن مع الوقت تطور مفهوم المقاطعة وأصبحنا نرحب بالفلسطينيين أياً ما كان جواز السفر الذى فرض عليهم حمله، وهكذا بدأنا نستقبل فى السنوات الماضية محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما من رموز القضية الفلسطينية رغم حملهم جوازات السفر الإسرائيلية. ولا شك أن أهم تطور حدث على صعيد القضية الفلسطينية فى الآونة الأخيرة هو ذلك القرار الأهوج الذى اتخذه الرئيس الأمريكى ترامب بإعلان القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية، ونقل السفارة الأميريكية من تل أبيب الى القدس، وهو القرار الذى رغم خطورته لم يأت برد الفعل المطلوب من العرب، فزاد من عزلة الفلسطينيين داخل المدينة المحتلة، وأدى إلى انكماش المساحة السياسية والجغرافية المتبقية لهم بعد أكثر من مرور نصف قرن من الزمان على احتلال أراضيهم. إن الفلسطينيين لا يتوقفون عن مناشدة أشقائهم العرب لمؤازرتهم وللوقوف الى جانبهم فى هذا الظرف الصعب، وربما جاءت زيارة وزير الخارجية العُمانى استجابة لهذا النداء، حيث كسر الحصار المفروض على السكان العرب بواسطة سلطات الاحتلال من ناحية، وبواسطة المقاطعة العربية من ناحية أخرى، فصار وجوده فى المسجد الأقصى تأكيدا للفلسطينيين وللعالم أجمع بأن العرب يقفون جنبا إلى جنب مع الشعب الفلسطينى ليس فقط فى المحافل الدولية وعلى موائد المفاوضات، وإنما أيضا على أرض الواقع، وأنهم متمسكون بعروبة القدس، وأنهم مجمعون على اعتبارها عاصمة الدولة الفلسطينية، على أن أهم ما أكدته الزيارة هو أن المقاطعة العربية يجب أن تكون مقاطعة لسلطات الاحتلال، وليس مقاطعة الشعب الفلسطينى، فهل يكون ذلك فاتحة لتطوير سياسة المقاطعة فى المرحلة المقبلة؟.
نقلا عن الاهرام القاهرية