بقلم - محمد سلماوي
كلما نظرت إلى حال العرب ازدت اقتناعا بأن الفرق بين الكلمة والحركة هو أهم ما يفرق بين الأمم المتقدمة، وتلك التى ترزح تحت نير التخلف، فها هم الآخرون يكيلون لنا اللكمات، الواحدة تلو الأخري، ونحن نتصور أن كلمات الرفض والاستنكار والإدانة كفيلة بأن ترد القضاء، وبأن تؤكد عدم قبولنا له، وفى الوقت الذى يعتمد الطرف الآخر على التحرك المستمر نحو الهدف الذى يسعى إليه، نبتعد نحن عن هدفنا، وهكذا تزداد مع الوقت المساحة التى يحتلها الآخر وتتقلص بنفس القدر المساحة الباقية لنا.
أقول ذلك بمناسبة ذلك القرار الذى اتخذه الرئيس الأمريكى الأهوج دونالد ترامب بتقليص مساهمة بلاده فى ميزانية وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والمسئولة عن ايواء وإطعام أكثر من خمسة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين بعد أن سدت فى وجوههم كل سبل العيش الطبيعية من مأكل ومسكن وغيره، وقد جاء هذا القرار البائس وغير الإنسانى بعد قرار آخر أكثر بؤسا، هو إعلان ترامب القدس عاصمة لدولة الاحتلال الصهيونية، ويجمع بين هذين القرارين أن العرب فى الحالتين لم يصدر عنهم أى تحرك إيجابى فى مواجهة تلك القرارات التى رفضها العالم أجمع.
فعندما فاجأ ترامب العالم باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل كتبت فى هذا المكان مطالبا الدول العربية بالاعتراف فى المقابل بالقدس عاصمة لفلسطين، ولم أكن أقصد وقتها الاكتفاء بعقد مؤتمر قمة عربى أو إسلامى لإعلان ذلك، فكما استتبع إعلان ترامب خطوة تنفيذية واضحة هى نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، فقد كان المتصور فى حالتنا أيضا أن يستتبع إعلاننا القدس عاصمة للدولة الفلسطينية خطوات تنفيذية تزيد من مساحتنا وتضيق الخناق على التحرك الأمريكي، فقد كان من الممكن مثلا استغلال الرفض الدولى للقرار الأمريكى فى توسيع نطاق الاعتراف بعاصمة الدولة الفلسطينية، بل وتوسيع نطاق الاعتراف بالدولة الفلسطينية ذاتها التى مازالت بعض الدول ترى أنها يجب ألا تقوم إلا فى إطار التسوية الشاملة، أى بموافقة إسرائيل، رغم أن قرار الأمم المتحدة الصادر فى نوفمبر 1947 والذى نص على قيام الدولة اليهودية نص أيضا على قيام الدولة الفلسطينية، وقد قامت الدولة اليهودية بالرغم من رفض العرب، فلماذا لا تقوم الدولة الأخرى إلا بموافقة إسرائيل؟ لقد فتح الرفض الدولى لقرار ترامب المجال واسعا أمامنا لطرح مثل هذا المنطق الذى كان العالم مستعدا لأول مرة إن لم يكن لقبوله فعلى الأقل لمناقشته، ذلك أن ما حال فى السابق دون قبوله هو الاتفاق الضمنى بعدم اتخاذ قرارات أحادية فى هذا الشأن، وهى القاعدة التى أسقطتها الولايات المتحدة بقرار ترامب الذى اتخذ من جانب واحد ولم يتشاور فيه مع أحد بما فى ذلك حلفاؤه الأوروبين.
لقد تزايد فى السنوات الأخيرة عدد الدول العربية التى اعترفت بإسرائيل، بما فى ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التى أسقطت من ميثاقها البند الخاص بعدم الاعتراف، فهل إسرائيل التى اعترفت بها الدول العربية هى ذاتها إسرائيل التى اغتصبت القدس المحتلة واتخذتها زعاصمة أبديةس لها؟ إن إسرائيل المعترف بها كانت عاصمتها تل أبيب وكانت القدس موضوعة على جدول أعمال المفاوضات الرامية الى التسوية الشاملة وفق قرارات الشرعية الدولية، فهل يظل الاعتراف بالدولة اليهودية ساريا حتى فى ظل خرقها للشرعية الدولية؟ وحتى فى ظل اغتصابها للأراضى التى احتلتها بدون وجه حق، إنها بذلك تعتبر دولة مارقة، ما قرار اعتبار القدس عاصمة لها إلا تأكيد جديد على ذلك، فكيف يكون الاعتراف بالدول المارقة؟ ألم تكن تلك فرصة فريدة لفتح مثل هذا النقاش لأول مرة مع بقية دول العالم الرافضة لقرار اغتصاب القدس؟ هل استثمرنا تلك الفرصة الفريدة، أم اكتفينا بالصراخ والعويل والإعلان ليل نهار رفضنا لقرار ترامب بينما تواصل إدارته الترتيبات اللازمة لنقل السفارة إلى القدس.
واليوم يجيء القرار التالى وهو خفض المعونة الأمريكية المخصصة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، فلم نكد نفيق من لطمة قرار القدس حتى جاءتنا لطمة قرار خفض المعونة التى يعتمد عليها اللاجئون الفلسطينيون اعتمادا كاملا، وحسبما أعلنت الوكالة فإن قيمة المعونة التى قدمتها الولايات المتحدة للوكالة خلال عام 2017 كانت 350 مليون دولار، لكنها خفضتها خلال العام الحالى بما قيمته 110ملايين دولار، أى بمقدار الثلث تقريبا، حيث أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية يوم الخميس الماضى أن الوزارة أوقفت دفعة قيمتها 45 مليون دولار كانت ذاهبة لبرنامج الغذاء الخاص بوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، وكانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت فى وقت سابق أنها أوقفت مبلغ 65 مليون دولار أخرى كانت مخصصة للوكالة.
والسؤال مرة أخرى هو: ماذا فعلنا إزاء ذلك؟ أما الإجابة فهي: فعلنا ما فعلناه مع قرار نقل العاصمة الأمريكية، فقد تعالت الأصوات العربية ترفض القرار وتندد به وانتهى الأمر، وقد يسأل سائل: وماذا كان بوسعنا أن نفعل؟ وردا على ذلك أقول فلننظر لأهل الفعل من المعترضين على هذا القرار، ونرى ماذا فعلوا. لقد أبدت دول الاتحاد الأوروبى اعتراضها مثلنا على خفض المعونة الدولية للاجئين الفلسطينيين، لكنها لم تقف عند كلمات الرفض والتنديد، فقد وجدنا حكومة بلجيكا مثلا تعلن أنها ستزيد حصتها هذا العام فى ميزانية الوكالة بمقدار 23.3 مليون دولار لمواجهة القرار الأمريكي، وفى نفس الوقت أعلنت هولندا أنها ستقدم معونة إضافية للوكالة قيمتها 15 مليون دولار.
ألم يكن من الأجدر بالدول العربية أن تبادر قبل غيرها بتعويض النقص الناجم عن القرار الأمريكي؟ إن القضية هنا ليس قضية سياسية، وانما هى تتعلق بالغذاء اللازم لأكثر من خمسة ملايين مواطن فلسطينى تفاقمت أعدادهم بعد شردوا فى حرب 1948 وطردوا من ديارهم وفقدوا سبل عيشهم، ولقد كانت الولايات المتحدة التى سارعت بالاعتراف بالدولة اليهودية التى قامت على أنقاض فلسطين عام 1948، من بين الدول التى ساهمت فى العام التالى مباشرة فى إقامة وكالة خاصة برعاية اللاجئين الفلسطينيين تحت رعاية الأمم المتحدة، باعتبار ذلك مسئولية إنسانية يتحملها المجتمع الدولى الذى وافق على قيام اسرائيل، والآن بعد تنصلها من تلك المسئولية واستغلالها المعونة الإنسانية لأغراض سياسية، ألا يجدر بنا أن نتحرك أخيرا؟ أم أن علينا الاكتفاء بالكلام وترك الحركة للآخرين؟!
نقلا عن الاهرام القاهرية