كل كبار المسئولين فى الدولة ابتداء بالرئيس عبد الفتاح السيسى وانتهاء بالمهندس ابراهيم محلب رئيس الحكومة يتحدثون الأن عن ضرورة الإصلاح الإدارى فى مصر على اساس ان قضية الإدارة من اخطر ما يواجه انطلاق وتقدم مؤسسات الدولة.
فى اكثر من حديث لمسئول كبير كانت كلمات مثل الفساد الإدارى تتردد وجميعهم يدين بشدة الظواهر المرضية المزمنة فى آداء مؤسسات الدولة .. والواقع ان الكلام لا يكفى وان الإدانة لا تفتح طريقا للخلاص ..
نحن امام اجهزة إدارية ترهلت وشاخت واصبح العلاج معها امرا مستحيلا ولا بديل عن الاستئصال بلغة الطب .. ان هذه الأجهزة التى مرت عليها عشرات السنين وهى تدار بنفس الوجوه ونفس الأساليب ونفس الترهل تحتاج الى اقتلاع جذورها، وإذا كان الشعب المصرى قد اطلق ثورتين وعزل رئيسين فمازال عاجزا عن استكمال ثورته الإدارية التى مازالت تمثل عبئا ثقيلا على مستقبل هذا الشعب وتقدمه ..
ان أسوأ ما فى هذه المحنة ان مشروع الدولة الجديدة التى نحن بصددها الأن يمكن ان يقع فريسة جهاز إدارى مترهل وغير قادر على إنجاز احلام التغيير .. ولا شك ان هذه قضية ينبغى ان نتعامل معها بجدية كاملة حتى لا نجد انفسنا وقد اغرقنا مستنقع الفساد الذى خرجنا عليه مرتين فى اقل من ثلاث سنوات .. هناك بعض الشواهد التى تؤرقنى وتضع اسئلة كثيرة ينبغى ان نجد الإجابة عليها.
من يتابع النشاط المالى فى عشرات المشروعات التى بدأتها مؤسسات الدولة ينبغى ان يتساءل هل هناك فعلا متابعات حقيقية لمستوى الشفافية والأمانة فى تنفيذ هذه المشروعات؟! ان هناك قواعد تحكم النشاط الاقتصادى مثل المناقصات والرقابة على المال العام فهل هذه الإجراءات تتم الأن ام ان الأمور تسير بالإسناد المباشر؟! .. نحن امام مشروعات ضخمة تتكلف مليارات الجنيهات .. نحن امام مشروع قناة السويس الجديدة والمبالغ المطلوبة لعمليات الحفر فقط تبلغ 30 مليار جنيه .. نحن امام إنشاء 3200 كيلو متر من الطرق تزيد تكلفتها على 15مليار جنيه وامامنا عشرات المشروعات العقارية التى يجرى اسنادها بالأمر المباشر سواء للقطاع العام او الخاص .. والمطلوب الأن ان تعلن الحكومة كل التفاصيل المالية حول تكاليف وتمويل هذه المشروعات بكل الأمانة والشفافية ..
نحن لا نقصد بذلك الإساءة او التشكيك فى احد ولكن فى ظل جهاز إدارى فاسد ومترهل ويجيد كل اساليب التحايل فإن الإطمئنان واجب .. والسؤال هنا: ان لدينا عشرات الأجهزة الرقابية التى تتابع أنشطة الدولة الإقتصادية فهل تتابع هذه الأجهزة ما يجرى تنفيذه الأن من المشروعات وهل تتاح امامها البيانات والأرقام الكافية ام ان منطق الجزر العشوائية مازال يحكم مؤسسات الدولة؟! على جانب آخر فإن الدولة تضع اولويات للمشروعات فمن يضع هذه الأولويات وهل هناك جهاز مسئول عن ذلك ام ان كل وزير يتصرف فى وزارته كيفما يشاء حسب قدراته ونفوذه ؟.
ان الأجهزة الرقابية يجب ان تكون رقيبا حقيقيا على آداء الجهاز الإدارى للدولة ليس فقط من الناحية المالية ولكن من حيث الأولويات ولماذا يسبق هذا المشروع المشروعات الأخرى ..
فى ظل غياب مجلس الشعب يكون من واجب الحكومة ومسئوليتها ان تعرض كل شئ على المؤسسات والأجهزة الرقابية فى الدولة حتى لا نجد انفسنا يوما امام تجاوزات واخطاء إدارية ومالية مكانها النائب العام والقضاء، وعلى الجانب الآخر فإن على الإعلام مسئولية ضخمة فى ان يراقب آداء الحكومة بفهم ووعى ومسئولية ولا ينحصر دوره فى النفاق والتطبيل او التجريح والإهانة ..
امام عدد كبير من القرارات التى تحكم العلاقة بين الحكومة والمواطنين فإن الأشياء تحتاج الى قدر من الوضوح والمصارحة .. ان الحكومة ترفع الأسعار بلا ضوابط ولا تفكر فى ان تشرح للمواطنين لماذا هذه الزيادات وحين ترفع الحكومة أسعار الأسمدة على الفلاحين بنسبة 33%ليصل سعر الطن الى 2000 جنيه بزيادة 500 جنيه مرة واحدة فيجب ان توضح أسباب هذه الزيادة ومدى تأثيرها على اسعار السلع والخضراوات، ان مثل هذه القرارات الإرتجالية يمكن ان تحرك مشاعر الغضب بين المواطنين فى وقت نحتاج فيه الى مزيد من الأمن والاستقرار .. اننا بلغة الاقتصاد نتفهم قرارات الحكومة فى زيادة الأسعار ولكن الأمانة تقتضى الا يقوم الطبيب بإجراء خمس عمليات جراحية للمريض فى وقت واحد .. لقد زادت اسعار الكهرباء بسبب الغاز وارتفاع اسعاره ثم زادت اسعار الأسمدة لنفس السبب اى اننا امام قرارات فيها شئ من المبالغة .. وإذا كان المواطن المصرى قد تقبل هذا الكم من الزيادات فى الأسعار تقديرا لظروف البلد فينبغى ألا تبالغ الحكومة فى مطالبها وقراراتها ..
على جانب آخر فقد جمعت الدولة مبالغ مالية ضخمة من المواطنين سواء فى شهادات قناة السويس او صندوق تحيا مصر او بقية الصناديق التى تلقت معونات من المواطنين وهنا ينبغى ان تقدم الحكومة للشعب كشفا واضحا بالمبالغ التى تم جمعها او انفاقها والمجالات التى شملت هذا الإنفاق .. فى ظل دولة جديدة ونظام جديد إذا كنا بالفعل جادين فى تحقيق العدالة والشفافية فيجب ان تكون الأشياء واضحة .. كانت التبرعات فى عهود مضت مجهولة المصدر والعنوان ولم يكن الشعب يعرف عنها شيئا حتى مجلس الشعب لأنه كان شريكا فى منظومة النهب والفساد .. وهنا ايضا يجب ان نتوقف عند المعونات الخارجية التى وصلت من الدول العربية الشقيقة ومجالات انفاقها لأن هذه الصفحة كانت من اكثر الصفحات غموضا فى سنوات العهد البائد فلم يكن الشعب «على علم بما يصل اليه من تبرعات ومساعدات ويكفى اننا تعرضنا لنقد شديد فى زلزال 92 بسبب غياب الأمانة والشفافية فى قضية المعونات الخارجية وحتى الداخلية منها .. ان توضيح الحقائق هو اقرب الطرق الى الثقة والحقيقة.
ينبغى ألا نتجاهل القصص التى ترددت حول تبرعات رجال الأعمال وهل كانت حقائق ثابتة ام ان فيها مبالغات كثيرة روجتها وسائل الإعلام المملوكة لهؤلاء الأشخاص ..هناك ارقام ضخمة .. وهناك ايضا ارقام هزيلة لا تتناسب مع الضجة الإعلامية التى اطلقها البعض .. وهنا يجب ان يكون الشعب على علم بمن ادى واجبه تجاه الوطن ومن تاجر بقروش قدمها على شاشات الفضائيات .. يدخل فى هذا الإطار ايضا ما قدمه الفنانون وهل كانوا بالفعل على مستوى المسئولية ام ان الصخب الإعلامى غطى على الجميع .
ان الخلل الإدارى ومنظومة الفساد فيه ليست مقصورة على تراث الماضى ولكن الكثير من اجهزة ومؤسسات الدولة مازالت تعانى من بقايا هذا التراث فى صورة مراكز إدارية تخصصت فى البحث عن مصالحها، يدخل فى ذلك انشطة اقتصادية مشبوهة مازالت حتى الأن تحكمها مجموعات من الأشخاص الذين لم يتغير فيهم شئ .. ان هذا ينطبق على مؤسسات تجذرت فى منظومة الفساد ومنها مواقع فى التعليم والإعلام والثقافة بل والقضاء ومؤسسات كثيرة فى الدولة تحمل هذا الماضى بكل ما فيه من الشوائب .
كيف نواجه ازمة التعليم فى ظل تشوهات ضخمة فى البرامج والكوادر والمناهج والأساليب والمبادئ والمنشآت وتكفينا كارثة تسمى الدروس الخصوصية .. كيف نواجه محنة الثقافة امام قضايا تافهة عن برنامج للرقص او فيلم منحرف ممنوع من العرض بينما مازالت الشللية واصحاب المصالح قابعون فى كل المؤسسات الثقافية للدولة منذ عشرات السنين، كيف نواجه ازمة الإعلام دون ان نفتش عن مصادر تمويله والأيدى الخفية التى تحرك كل شئ فيه.. كيف نتحدث عن ازمة الكهرباء دون وجود خطط بديلة لإنتاج الطاقة وكأننا نعيش فى العصور الوسطى واين محطات الكهرباء الجديدة واين مشروعات الطاقة الشمسية و البدائل المتاحة امامنا .. ان هذه الأشياء تعكس صورة مشوهة عن أداء الجهاز الإدارى فى الدولة وهى واقع تحدث عنه كبار المسئولين .. وقد يتبادر الى الأذهان ما هو الحل ..
نحن امام جهاز ادارى اصابته كل الأمراض ابتداء بالعجز وانتهاء بعدم القدرة على مخاطبة العصر ولا يعقل ان يظل هذا الجهاز جاثما على صدر مصر نصف قرن من الزمان والمطلوب الأن ان نفتح الأبواب امام الشباب ولدينا قدرات هائلة من شباب مثقف واع تواصل مع حضارة العصر .. ان الأطفال الصغار الأن يتعاملون فى مدارسهم مع جهاز الكمبيوتر بكل الكفاءة .. وهناك ملايين الشباب فى مواقع كثيرة يمكن الإستفادة منهم فى تطوير أداء الجهاز الإدارى للدولة المصرية .
نحن مازلنا نعيش زمان ثورة ولا يعقل ان تبقى معاقل البيروقراطية المصرية العتيقة تدير شئون هذا الوطن .. ان هذه الأساليب المتخلفة فى الإدارة سوف تقطع اى يد تقترب من الإصلاح او تحاول التغيير، لا بد ان نستفيد مما وصلت اليه برامج التقدم فى العالم ولعل قرار الرئيس السيسى بزيادة عدد البعثات التعليمية للخارج اكبر تأكيد على ذلك .. فى مصر مجالات كثيرة تحتاج الى التطوير فى اساليب العمل ووسائل الإنتاج .. فى دول الخليج تشاهد كاميرات المراقبة الأمنية فى كل الشوارع والمطارات والعمارات وتجد احدث الوسائل فى تحقيق امن المواطنين واحدث وسائل التكنولوجيا فى التعليم والمرور والإنتاج والزراعة والتصنيع
> ان استمرار بقاء اجهزة إدارية ترهلت سوف يقطع كل خيوط التواصل مع اى تقدم قادم وعلينا ان نعيد النظر فى المنظومة الإدارية فى مصر لأنها الأساس الذى يمكن ان ننطلق منه الى المستقبل .. كبار موظفى الدولة المصرية ادوا واجبهم على اكمل وجه ومن الأمانة ان يسلموا الراية لأجيال جديدة من حقها ان تعمل وتنجح وتنتج، وهذا ابسط حقوق المواطنة إذا كنا نتحدث عن العدالة وكرامة الإنسان .
الجهاز الإدارى فى مصر يحتاج الى ثورة تشبه ثورة يناير وثورة يونيه حتى تقتلع جذور الفساد والبيروقراطية وبقايا سنوات التحايل والنصب ونهب المال العام لأن سياسة الإصلاح الادارى لا تكفى .