عمرو الشوبكي
سافرت بالطائرة مئات المرات ورأيت عجائب من شركات الطيران، غير أن هناك تجربة مررت بها ما زالت ترد على بالى مصحوبة بالدهشة كلما تذكرتها. أخذت الطائرة من مدينة فانكوفر بمقاطعة كولومبيا البريطانية فى أقصى الغرب الكندى إلى مدينة مونتريال بمقاطعة كويبك فى الشرق..
الرحلة طويلة رغم أنها داخلية وزمنها يربو على ست ساعات، ولقد تلطفت شركة إير كندا فمنحتنى تذكرة مجانية على درجة رجال الأعمال باعتبارى وقتها مديراً لشركة طيران. جلسنا استعداداً للإقلاع وقام بعض أفراد الطاقم بعدّ الركاب فى مقاعدهم، وقد وضح أن الرحلة ممتلئة. بعد قليل أقلعت الطائرة فأخرجت كتاباً رأيت أن أستعين به لقطع الوقت، ثم بدأت روائح الطعام تهل أثناء تسخين الوجبات تمهيداً لتقديم الغداء للركاب. وللحق.. كانت الرائحة طيبة وتشى بوجبة دسمة مما حفز الغدد اللعابية على العمل وأيقظ المعدة الخالية لتبدأ فى إفراز العصارة للطعام القادم.
كانت وجبات درجة البيزنس أكثر تميزاً بطبيعة الحال، ورأيت المضيفات وهن يقدمن الطعام بمهارة ورشاقة، لكنى مع ذلك لاحظت أن المضيفة تجاوزتنى أكثر من مرة وقدمت الطعام للراكبة الجالسة بجوارى ثم قدمت للمقاعد المحاذية لى والمقاعد التى تسبقنى والأخرى التى تلينى.. كل الركاب بمقصورتنا اختاروا طعامهم وشرعوا فى الأكل بينما أنا الوحيد الذى ما زال فى الانتظار. فى البداية كبحت غضبى وانتظرت أن ينتبهوا أننى لا آكل مثل الآخرين، ثم علا صوتى منبهاً: إيه يا جماعة.. أنا معكم على هذه الرحلة إن كنتم لا تروننى!. ابتسمت المضيفة فى ود ثم اقتربت منى وقالت هامسة: متأسفون جداً ولكن تذكرتك مجانية!. قلت فى دهشة: وماذا يعنى هذا؟ هل صاحب التذكرة المجانية بلا جهاز هضمى ولا يحتاج للطعام؟..
لقد ركبت فى رحلات مماثلة عشرات المرات ولم يحدث أن منعت شركة الطيران عنى الطعام بحجة أن التذكرة مجانية.. ثم أضفت: وعلى شركتكم هذه أتيت منذ يومين إلى فانكوفر، وتم تقديم وجبة لى أسوة ببقية الركاب. ردت المضيفة بلهجة حيادية: سيدى لقد صعد أحد الركاب بعد أن اشترى تذكرة فى اللحظة الأخيرة ولم يكن من المتيسر طلب وجبات إضافية حتى نقلع فى الميعاد، لهذا فقد عملنا بما ينص عليه «دليل العمل» واستثنينا الراكب المجانى ونحن نأمل أن يقدّر موقفنا باعتباره زميلا فى نفس المهنة. وجدتنى أرمقها بابتسامة يائسة وأنا أقول: أنا موافق على وجبة من وجبات الدرجة السياحية لو كان لديك منها. قالت وعلامات الخجل تبدو عليها: نعم لدينا وجبات إيكونومى، لكنك بالضرورة تعلم أننا لا يمكن أن نقدم مستويين من الطعام على نفس الدرجة.. هذا خرق لبروتوكول العمل. كنت أعلم أن كلامها صحيح لكننى كنت أتضور جوعاً ولم أكن قد أفطرت بالفندق قبل الذهاب للمطار. قلت فى محاولة أخيرة: بعض شركات الطيران تبيع وجبات بالفلوس.. لو كان لديكم أى شىء يؤكل أنا مستعد لدفع ثمنه. اعتذرت بأدب ثم انسحبت.
عندما كانت الطائرة تهم بالهبوط فى مونتريال ليلاً، قررت أن أتوجه لأحد مطاعم المطار لألتهم كل ما أستطيع من طعام.. لكن الغريب أننى وبينما أقترب من المطعم شعرت أن الجوع يتلاشى وأننى لا أرغب فى الطعام كما كنت أظن. لقد كان الشعور بالحرمان هو ما يضغط علىّ وليس الشعور بالجوع!