دعا الأستاذ محمد حسنين هيكل، فى حديثه السبت الماضى، الرئيس السيسى إلى الثورة على نظامه، وأثار هذا الطرح جدلاً كبيراً، خاصة بعد عودة بعض رموز نظام مبارك إلى صدارة المشهد السياسى، وإعلان كثير منهم عن نيتهم خوض الانتخابات المقبلة وتأكيد البعض الآخر أن أغلبية البرلمان القادم ستكون للأعضاء السابقين من الحزب الوطنى.
والحقيقة أن خط هيكل الدائم ينحاز لفكرة إصلاح النظام من داخله، وطرح هذه الفكرة بشكل متكامل فى نهايات عهد مبارك، وبما أن كثيرين يتحدثون عن الثورة الآن (بمن فيهم بعض أركان نظام مبارك وجماعة الإخوان التى رفضت فى كل أدبياتها الثورة) فلا بأس أن يكون الحديث عن مطالبة الرئيس بدوره بالثورة على نظامه، وهو فى الحقيقة نظام ورثه ولم يصنعه مثل نظام مبارك.
والمؤكد أن هذا النظام «يعشش» بداخله ترهل وفساد وانعدام للكفاءة، ومشكلة إصلاحه أو الثورة عليه ليست سهلة ولها ثمن سياسى كبير، والمجتمعات التى أنجزتها كانت بها درجة كبيرة من التوافق السياسى، لأن أى عملية إصلاحية لها ثمن ومعارضون من داخل النظام أكثر من خارجه، ولذا هى تحتاج توافقاً بين القوى السياسية مثلا على خطوات إصلاح الجهاز الإدارى والأجهزة الأمنية والإعلام وغيرها.
وإذا كان هذا التوافق السياسى غير موجود ولا توجد مؤشرات على أن هناك رغبة فى بنائه أو قناعة أنه مهم، وبات واضحا أن مصر تقترب من نموذج الرئيس القوى الذى يرغب فى استعاده قوة الدولة، وليس إصلاحها، بما يعنى الاعتماد على مزيد من الحلول الأمنية التى باتت أحيانا أكثر قسوة وتشددا من عهد مبارك.
والحقيقة أن اعتماد الحلول الأمنية على نطاق واسع خارج حدود مكافحة الإرهاب يعنى غياب السياسة والرؤية السياسية، وهى أمور تجعل دائما هناك عدم تقبل لفكرة أن هناك مشكلة سببها قصور السياسة، إنما كما يقال بسبب الإرهاب ومؤامرات جماعة الإخوان وغياب الأخلاق وعدم خوف بعض الناس على مصر، ووقوع الشباب أسرى لدعاية ومؤامرات خارجية مضللة.
فى حين أن مسألة إصلاح النظام بتعبيرى، أو ثورة السيسى على نظامه بتعبير الأستاذ هيكل، تعنى فى الحالتين اتخاذ إجراءات جراحية تعمل على وضع منظومة جديدة تحل تدريجيا مكان المنظومة القديمة، وهنا يكون النجاح، وليس اختزال الأمر فى إقصاء بعض رموز مبارك، وتمكين الشباب والأنقياء المهنيين بدلا منهم لن يحل المشكلة طالما جاء على نفس المنظومة القديمة وغابت عنه أى رؤية لإصلاح وتفكيك المنظومة القديمة.
المؤكد أن هذه المنظومة مازالت باقية تحكمنا وتدير أمورنا دون أن تتغير، فهى المسؤولة عن سقوط 1000 مواطن ضحايا العبارة المنكوبة فى 2006 وهى نفسها تكررت مع أعداد أقل من الصيادين المصريين الأسبوع الماضى (15 مواطنا) بسبب البطء الشديد فى تحرك فرق الإنقاذ (تحركت بعد أكثر من 10 ساعات مع عبارة 2006).
ما يجرى الآن، نتيجة غياب السياسة وضغوط الإرهاب، هو أننا قررنا ألا «نزعل» أحدا داخل الدولة، وأبقينا «الطبعة الأخيرة» من دولة مبارك تدير أمورنا حتى يقف البلد على أقدامه، ثم نفكر بعد ذلك فى عملية الإصلاح.
والحقيقة أن هذا التصور لن يجعل البلد يقف على أقدامه، وسندخل فى مزيد من المشاكل، ويبقى السؤال: هل يمكن الثورة على «لا نظام»، وهل هناك نية لمواجهة تجريف التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات، والزراعة والصناعة؟ أم فقط إجراء تغييرات ورتوش فى الشكل ورسائل معنوية إيجابية فى تكريم الرئيس للعلماء وأخرى سلبية فى التركيز على مقابلة الإعلاميين وليس قواعد الإعلام.
والحقيقة أن مشكلة مصر الأساسية ليست فى التعبيرات والجمل الكبرى التى راجت بعد 25 يناير: الثورة مستمرة، والثورة على النظام، إنما هى إدارة تفاصيل المشهد ووضع خطط اقتصادية وسياسية تؤسس لمنظومة جديدة فى إدارة الدولة والمجتمع وليس فقط أو أساسا مشاريع جديدة، وهذا لم تتقدم فيه مصر خطوة واحدة بل ربما تراجعت عما كان عليه الحال قبل ثورة يناير.
إن مشاكل مصر لن تحلها فقط المشاريع الكبرى وافتتاح الجسور والمصانع، إنما بوضع منظومة جديدة تنظر إلى تفاصيل المشهد: كيف تدار مؤسسات الدولة بترهلها وتدهور أدائها، ما هى معوقات الاستثمار الحقيقية فى أرض الواقع، ما هى أسباب سوء أداء المحليات وفسادها وما هى خطط الدولة لتطويرها، كيف نبنى سياسة تعليمية جديدة ونفتح الملفات الصعبة مثل معادلة المجانية الحكومية فى مقابل لا تعليم التى تقذف كل يوم بعاطلين فى سوق العمل؟ وغيرها من الملفات التى لا علاقة لها بالرشادة ولا العدالة.
إن معضلة مصر الأساسية أنها عاشت تقريبا طوال 30 عاما فى ظل «لا نظام»، فلم تكن القضية أننا نعيش فى ظل نظام اشتراكى، وقررنا أن نتحول نحو الرأسمالية أو العكس، إنما كنا نعيش فى ظل «لا نظام»، وعرفنا جهازا إداريا مترهلا محدود الكفاءة وقوانين بالية لم يحاول أحد إصلاحها، وعشنا فى ظل شعارات عامة عن الأمن والأمان والاستقرار كفلسفة للنظام الأسبق ودون أى دخول فى تفاصيلها.
هذا هو النظام الذى ورثه السيسى، أما تركيبة النظام الجديد وتوازنات القوى داخله وغياب الرؤية السياسية فستعنى ببساطة أننا أمام خطر كبير، وأنه باستثناء تجرية عبدالناصر الذى قدم أهم مراجعة نقدية فى تاريخ مصر المعاصر بعد هزيمة 67 لم يقم أى زعيم مصرى بمراجعة من أى نوع، وأن بقاء الأوضاع على ما هى عليه، وفتح نفس بوابة الحملات الرخيصة فى مواجهة كل من يقول: احذروا نحن لسنا على الطريق الصحيح، سيعقد أمورنا بأسرع مما يتصور الكثيرون.