بقلم - عمرو الشوبكي
استخدمت الإدارة الأميركية مؤخراً تعبير «الحاجة إلى سلطة فلسطينية متجددة» كنايةً عن رغبتها في عودة السلطة إلى إدارة قطاع غزة بعد الحرب في شكل جديد أو متجدد، وبعيداً عن أن لقطاع غزة أهلاً يقررون شكل السلطة التي سيختارونها، إلا أن الطرح الأميركي عكس وجود فراغ سياسي في غزة، خاصة أن وجود جناح سياسي قديم ومهمش في صناعة القرار العسكري الحمساوي لن يكون قادراً على حل مشكلة غزة بعد الحرب في ظل السيناريوهات الأميركية لمستقبل القطاع.
لم يلتفت الكثيرون لأزمة الجناح السياسي لحركة «حماس» إلا بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، ولم يرَ كثيرون أن أبرز نقاط ضعف الحركة هو وجود جناح سياسي غير قادر على الوجود إلا في البلاد التي تؤيد، أو لديها قنوات اتصال، أو حتى حسابات مع حركة «حماس»؛ مثل إيران وتركيا وقطر، أما باقي دول العالم فهي تعد حركة «حماس» إرهابيةً، وتجرم حتى وجود المتعاطفين معها ولو بالكلمة أو بإرسال المساعدات.
والحقيقة إن عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، على عكس تجارب تنظيمات التحرر في العالم، انفصل فيها بشكل كامل العسكري عن السياسي، وإن عدد مَن عرفوا بموعد العملية وتفاصيلها لا يتعدى أصابع اليد من قادة الجناح العسكري للحركة، وإنه ربما لو كان لدى «حماس» جناح سياسي متواصل مع العالم، لكان ربما نصح جناحها العسكري بأن يقتصر استهدافهم في هذه العملية على الجنود الإسرائيليين والعناصر المسلحة فقط.
ومهما كانت قوة الحجة الفلسطينية بأن استهداف المدنيين يأتي رداً على جرائم الاحتلال في استهداف المدنيين الفلسطينيين منذ النكبة وحتى اليوم وهو صحيح، إلا أن حضور السياسي هنا سيكون من أجل قراءة رد الفعل الإسرائيلي على 7 أكتوبر، وحسابات المكسب والخسارة، وليس بالضرورة بمنطق الرفض والإدانة لهذا النوع من عمليات المقاومة المسلحة.
فلأول مرة نجد حركة مقاومة لا يستطيع قادة جناحها السياسي التواصل الدقيق مع جناحها العسكري ولا مع العالم، وحتى المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني ليست لها علاقة بقادة حركة «حماس» السياسيين، كما لا توجد أي علاقة بينهم وبين المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، على عكس تجارب حركات التحرر الوطني التي كان لقادتها السياسيين حضور في كل دول العالم من منظمة التحرير الفلسطينية مروراً بجبهة التحرير الجزائرية، وانتهاءً بالمؤتمر الوطني الأفريقي، ومثلوا غطاءً شرعياً للجناح العسكري، وحاولوا قدر الإمكان أن يؤثروا في الرأي العام العالمي، ويدافعوا عن قضايا شعوبهم، وهو بلا شك غير متاح لحركة «حماس» لأسباب تتعلق ببنيتها العقائدية والآيديولوجية واستهداف إسرائيل لها.
لا يمكن تخيل انتصار الثورة الجزائرية المسلحة ضد المستعمر الفرنسي دون وجود الجناح السياسي لجيش التحرير الوطني، ممثلاً في جبهة التحرير الجزائرية، وإن النهايات الأخيرة للاستعمار الفرنسي في الجزائر جاءت عقب تشكيل جناح سياسي يفاوض المستعمر تمثل في حكومة مؤقتة تأسست في المنفى في 19 سبتمبر (أيلول) 1958، كما قررت القيادات السياسية والعسكرية إنزال الشعب الجزائري إلى الشارع لدعم العمل العسكري، ونجحت جبهة التحرير (الجناح السياسي) في تنظيم مسيرات شعبية ضخمة في سائر المدن والقرى الجزائرية من أجل الاستقلال، كما نظمت في أكتوبر 1961 مظاهرة في عاصمة البلد المستعمر، باريس، دعا لها الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني، وهي المظاهرة التي قمعتها الشرطة الفرنسية بقسوة وخلفت في بعض التقديرات 300 قتيل، وكانت إحدى أدوات الضغط على فرنسا حتى استقلّت الجزائر.
أما جنوب أفريقيا، فقد شهدت في البداية نضالاً سياسياً مدنياً على يد حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» لكن بعد القمع والحظر الذي تعرّض له الحزب وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين الرافضين لسياسة الفصل العنصري أسس نيلسون مانديلا (رمز التسامح) في 1961 جناحاً عسكرياً سماه «رأس الحربة» وأصبح رئيساً له، واعتُقل وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وأطلق من محبسه جملته الشهيرة «اتحدوا! وجهزوا! وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري» وهو ما حدث.
صحيح هناك اختلاف كبير بين سياق «حماس غزة» وتجارب التحرر الوطني الأخرى، إلا أن الأمر الذي لا جدال فيه أنه لا يمكن لحركة مقاومة مسلحة أن تنتصر بعمليات عسكرية فقط مهما كانت درجة اتقانها أو تأثيرها على الاحتلال، ولا بد أن يكون هناك جناح سياسي قضيته الأساسية ليست إدارة الخلافات مع السلطة الفلسطينية ولا إدارة التحالفات مع داعمي «حماس»، إنما التواصل مع الرأي العالم العالمي وقواه الحية، وامتلاك مهارة التفاوض وقبول الحلول المرحلية، التي تخدم الهدف الاستراتيجي في بناء الدولة الفلسطينية، وقبلها جعل العمل المسلح نتاج تفاعل بين العسكري والسياسي.
ليس مطلوباً تصنيع جناح سياسي على المقاس العربي كما فعلت الولايات المتحدة في تجاربها الفاشلة في أفغانستان والعراق، إنما مطلوب أن تسهم الدول العربية المؤثرة في تشكيل نخبة مهنية تمتلك أفقاً سياسياً خارج الانقسامات الفلسطينية، ومتواصلة مع منظمة التحرير حتى لو تعاطفت مع «حماس»، وأن يكون لديها تعليم جيد، وتمتلك مهارات في التفاوض، وتعرف لغة العالم وحساباته، وقادرة على التأثير فيها (وهو ما سنفصّله لاحقاً)، وهي خبرات يمتلكها الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبين عرب 48، والدور العربي سيكتفي بالتنظيم والإعداد والتأهيل بعيداً عن سياسة المحاور؛ لأن هذا الفراغ السياسي الرهيب أول مَن سيدفع ثمنه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.