بقلم - عمرو الشوبكي
مرت الذكرى الـ٧٠ لثورة يوليو، وخفّت خناقات «مواقع التواصل الاجتماعى» دون أن تختفى، رغم أن مصر والبلاد العربية تشهد مشكلات أخرى أكثر أهمية من الاشتباك حول «يوليو»، ويُفترض أن تشغل بال الجميع، بدلًا من الغوص في أدوات تجربة تظل بنت عصرها وسياقها التاريخى، ولا يمكن تقييمها بأدوات الألفية الثالثة وأولوياتها السياسية.
وقد قامت ثورة يوليو عقب فشل حزب الوطنية المصرية الأكبر، أي الوفد، في تحقيق الاستقلال، بعد أن تآمرت عليه قوى كثيرة جعلته يصل إلى الحكم أقل من 7 سنوات غير متصلة في الفترة ما بين ثورة 1919 حتى ثورة 1952 رغم شعبيته الجارفة.
المصريون في مجملهم دعموا مبادئ «يوليو» لأن كل مصرى وطنى عاش في تلك الفترة كانت أولوياته تحقيق الاستقلال وخروج المستعمر، فحققت له «يوليو» الاستقلال، وأعلنت الجمهورية التي أصبحت مصدر شرعية نظامنا السياسى، ثم قاد عبدالناصر معارك التحرر الوطنى، وأمّم قناة السويس، وبنى قاعدة صناعية كبرى، وأسّس لنهضة ثقافية كبيرة.
ولذا يجب تقييم ثورة يوليو بوضعها في سياقها التاريخى بأولوياته السياسية والاجتماعية، وهو ما جعلها تصمم نظامًا سياسيًّا مخالفًا للنظام الذي عجز عن تحقيق الاستقلال، فالأحزاب تم حلها لأنها أيضًا عجزت عن تحقيق الاستقلال الوطنى، بما فيها درة الحركة الوطنية المصرية (حزب الوفد)، كما أن بعضها تواطأ تارة مع القصر وتارة مع الاحتلال، وتم إسقاط الدستور الذي لم يُحترم كثيرًا إبّان العهد الملكى، وحلت مكانه شرعية ثورية أسست لنظام جديد على أسس ثورية لا دستورية ولا ديمقراطية.
يقينًا تجربة «يوليو» لم تكن وردية كما يصورها البعض ولا كلها سوءًا وسوادًا كما يتحدث عنها البعض الآخر، فعبدالناصر مسؤول عن هزيمة 67 حتى لو اعترف بمسؤوليته عنها واستقال، ومسؤول عن تجاوزات أمنية حاول أن يُصلحها متأخرًا، ومسؤول أيضًا عن التوسع في التأميم حتى طال قطاعات غير استراتيجية لم يكن مطلوبًا تأميمها.
السياق التاريخى حاسم في تقييم أي تجربة سياسية، فكل تجربة هي بنت عصرها، وأهمية «يوليو» أنها امتلكت مشروعًا سياسيًّا تحرريًّا ملهمًا، وامتلكت في نفس الوقت نظامًا سياسيًّا غير ديمقراطى وغير ملهم.
خناقة «يوليو» مطلوب تجاوزها، فمشروعها الأساسى هو مشروع تحرر وطنى، ولم يكن من ضمن أولوياته الديمقراطية، وتقييمها يجب أن يكون على ضوء سياقها التاريخى، فكل تجارب التحرر الوطنى باستثناء الهند لم تبنِ ديمقراطية إنما بنَت استقلالًا وتحررًا ومحاربة الاستعمار.
سيبقى مطلوبًا أن تميز مجتمعاتنا بين قيم ومبادئ أي تجربة تاريخية، وعلى رأسها ثورة يوليو، أي في التحرر الوطنى والمساواة بين الشعوب والعدالة والنظام الجمهورى والدستور المدنى لدولة وطنية راسخة، وبين أدواتها ووسائلها، التي هي محل نقد ومتغيرة.