على مدار شهرين من المعارك بين الفلسطينيين والإسرائيليين طُرح سؤالٌ حول أسباب عدم مشاركة الدول العربية والإسلامية في المعارك بجانب إخوانهم في العروبة أو الدين؟ وأرجع البعض ذلك إلى ضعف النظم العربية واتهمها بالخوف من إسرائيل والتبعية لأميركا، مطالباً إياها بالحرب من أجل تحرير القدس والمسجد الأقصى.
وبعيداً عن خطاب المزايدات الذي احترفه البعض، فإن المؤكد أن التحول الذي جرى في العالم العربي لم يكن فقط تحول في طبيعة النظم القائمة إنما أساساً تغير الواقع المجتمعي، الذي وضع «الحسابات الوطنية» في قمة خياراته، وعدَّ أن المطلوب هو مزيد من التضامن والدعم للشعب الفلسطيني، سواء كان ذلك من القاهرة أو الرياض أو طهران، وليس المشاركة تحت أي لافتة في هذه الحرب.
والمؤكد أن هناك حنيناً مشروعاً لفترة تاريخية سابقة عرف فيها العالم العربي صوراً مختلفة من التضامن مع فلسطين والقضايا العربية شملت الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية، فحرب 1948 شاركت فيها 6 جيوش عربية، كما أن حرب 73 شاركت فيها بدرجات مختلفة معظم الجيوش العربية، وأصبح السؤال الذي يطرحه البعض بحسن نية لماذا لا تشارك الجيوش العربية في حرب غزة؟
والحقيقة أن ما جرى في فلسطين عام 1948 كان امتداداً لحروب الحلفاء والأعداء في الحرب العالمية الثانية، حين اصطف كل طرف مع حلفائه في الحرب الدائرة، وأن صور التضامن العربي الإسلامي في ذلك الوقت بين بلدان خرجت منذ عقدين من حكم دولة الخلافة الإسلامية، كما أن حسابات المصالح الوطنية شعبياً ورسمياً لم تكن حاضرة بالقوة نفسها كما هي الآن.
أما حرب 56 التي اندلعت عقب تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس فقد كانت محل تضامن وإجماع عربي في دعم مصر من المحيط إلى الخليج في وجه العدوان الثلاثي، ثم جاءت هزيمة 67 لتفتح باب التلاقي بين مصر والسعودية وتفرز دعماً عربياً بالمال والسلاح من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، ورفع مؤتمر قمة الخرطوم في 1968 اللاءات الثلاثة الشهيرة (لا صلح لا اعتراف لا تفاوض) في وجه إسرائيل.
وجاءت حرب 73 وشاركت فيها أيضاً الكثير من الجيوش العربية، رغم كونها كانت بالأساس حرباً وطنية لتحرير الأراضي المصرية والسورية المحتلة في سيناء والجولان، إلا أن حالة التضامن العربي والإسلامي والأفريقي وصلت إلى مشاركة البعض بالعمل العسكري، وقطع البعض الآخر علاقاته مع إسرائيل كما فعلت الدول الأفريقية.
والمؤكد أن مسار كامب ديفيد كان هو بداية الطريق لتكريس المسار المنفرد في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، وأن المنطق الذي حكم خطوة الرئيس السادات كان منطقاً وطنياً خالصاً، وقال إن مصر حاربت من أجل القضية الفلسطينية، وإن من مصلحتها الوطنية أن تدخل في مفاوضات سلام تؤدي إلى استعادة أراضيها المحتلة في سيناء، وهذا ما جرى عقب التوقيع على معاهدة كامب ديفيد في 1979.
لقد كانت كامب ديفيد تعبيراً عن تحول جرى في المجتمع المصري في اتجاه تكريس المصلحة الوطنية بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع طريقة الرئيس السادات في التعبير عن هذا التحول، إنما ترسخ شعور عام تقريباً في كل بلد عربي بأن «الحرب والسلام» هما قضايا وطنية وليست أممية أو قومية.
وتكرر الأمر، وإن بصورة مختلفة في لبنان عقب الغزو الإسرائيلي في 1982، حيث رفض طرف من اللبنانيين الوجود الفلسطيني المسلح، ولم يحتمل الطرف الآخر عنف ووطأة العدوان الإسرائيلي، فكان خروج أبو عمار الشهير من بيروت تعبيراً عن كون التضامن مع القضية الفلسطينية لا يعني بالضرورة الدخول في حرب ضد إسرائيل.
وتكرر الأمر مرة أخرى مع «حزب الله»، الذي وإن كان جزءاً من تحالف استراتيجي مع إيران، إلا أنه أدخل في حساباته تقدير الغالبية العظمى من اللبنانيين، بما فيهم جزء كبير من حاضنته الشيعية، برفض الدخول في حرب شاملة مع إسرائيل، واكتفى حتى الآن بالمواجهة المحسوبة معها.
وقد تعمق مفهوم الانتفاضات الوطنية لدى الشعب الفلسطيني عقب انتفاضته الشعبية في 1987 التي عرفت بانتفاضة الحجارة، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000 وغيرها، وعدَّ أنه يخوض حرب تحرير وطنية كبرى بأدوات جديدة اعتمدت على الداخل الفلسطيني وساهمت في فتح مسار سياسي أدى إلى التوقيع على اتفاق أوسلو في 1993، الذي فتح الباب أمام حل الدولتين قبل أن تجهضه السياسات الاستيطانية الإسرائيلية.
لقد ترسخ داخل العالم العربي والإسلامي في نصف القرن الأخير مفهوم المصالح الوطنية العليا التي باتت تشكل القيمة الأساسية في شرعية أي نظام سياسي مقارنة بما كانت عليه الحال في حرب 48 وغيرها، وأصبحت «الحسابات الوطنية» في الاستقرار والتنمية أو «الطموحات الوطنية» في التحرر والاستقلال هي التي تحكم شعوب العالم.
لا يمكن تخيل أن يكون «الممانعون» أو الذين يعلنون أن مشروعهم العقائدي والسياسي قائم على تحرير فلسطين لم يشاركوا في أي حرب، إلا إذا استدعت مصالحهم الوطنية ذلك، في حين يتهم المعتدلون بالتخاذل لأنهم لم يشاركوا في حرب غزة.
سيبقى مطلوباً من الدول العربية الكبرى تقديم مزيد من الدعم للشعب الفلسطيني وليس المشاركة في الحرب، بل العمل على وقفها، وإن أي نقد لأدائها سيكون بسبب أن هذا الدعم ما زال أقل من المطلوب، ويحتاج لتفعيل أدوات القوة العربية سياسياً واقتصادياً وقانونياً من أجل فضح الجرائم الإسرائيلية ووقف العدوان على الشعب الفلسطيني.