خطورة الوضع الحالي في جنوب لبنان أنه يأتي بعد أن أخرجت حرب غزة إلى العالم كيف أن إسرائيل أصبحت دولة فوق أي قانون أو قواعد دولية، وأن اقترابها من قرار توجيه ضربة إلى لبنان لا يعني أنها حسمته، لأنها ستحرص على ألّا تنزلق نحو حرب إقليمية واسعة، أو حرب طويلة تستمر لأشهر.
ستعمل إسرائيل على وضع قواعد جديدة للاشتباك، وهي تمتلك أوراقاً أفرزتها حرب غزة، وأهمها أنها صارت فوق المحاسبة الدولية، في مقابل أوراق عسكرية يمتلكها «حزب الله»، وهي بالأساس التي ستجعل إسرائيل تفكّر مرات، قبل أن تفعّل قرار الحرب، وتتمثّل في أن مواقع الحزب داخل الأراضي اللبنانية بعيدة عن السيطرة الإسرائيلية (حتى لو كانت قريبة من أعينها)، ونجاحه طوال السنوات الماضية في إدخال شحنات أسلحة متنوعة أسهمت في مضاعفة قدراته العسكرية الملاصقة للحدود الإسرائيلية.
والحقيقة أن أحد الحسابات الاستراتيجية في عدم حسم قرار الحرب هو قدرة «حزب الله» على الردع، مدعوماً بشكل كامل من إيران، من دون أن يعني ذلك تورّطها في حرب شاملة.
إن الخوف على لبنان لن يكون بسبب مواجهة بين تنظيم مسلح مثل «حزب الله» والجيش الإسرائيلي، ستجري في صحراء نائية أو منطقة عازلة أو وسط سكان بلد محتل، يجمع الناس على ضرورة مواجهة الاحتلال؛ إنما ستجري في مناطق مأهولة بالسكان، ولن تكتفي فيها إسرائيل باستهداف «حزب الله»، كما فعلت وتفعل وستفعل؛ إنما ستستبيح مناطق وأحياء مدنية كثيرة، وستضرب بقسوة مناطق تمثّل حاضنة شعبية لـ«حزب الله».
معركة إسرائيل في لبنان إذا حدثت ستكون في أعقاب عجز كل الكوابح الشعبية والرسمية ومؤسسات الشرعية الدولية في منع إسرائيل من استهداف المدنيين في غزة، وثبت بالصوت والصورة أنها دولة محصّنة فوق القانون والشرعية الدولية، فلا جهود جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية أسفرت عن منعها من ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ولا قرار مجلس الأمن اليتيم بوقف إنساني مؤقت لإطلاق النار احترمته، ولا المجتمع الدولي والولايات المتحدة ضغطا على إسرائيل حقاً لوقف عدوانها.
صحيح أن الوضع في لبنان سيختلف عن غزة، وأن أميركا وفرنسا ستحرصان على عدم تكرار مشاهد القتل الجماعي مرة أخرى في لبنان، ولكنهما في كل الأحوال لن تستطيعا منع إسرائيل من استهداف المدنيين، تحت حجج مختلفة في الجنوب أو في الضاحية الجنوبية لبيروت، أو في مناطق أخرى تمثّل حاضنة شعبية لـ«حزب الله».
المبدأ الذي كرّسته إسرائيل في حرب غزة يمكن أن تكرره بصورة مخفّفة في لبنان، فلا حصانة لمستشفى ولا لدور عبادة ولا لمدني، وأن إسرائيل ستنتقم منهم بنسب، وهي تعلم أنها فوق أي محاسبة أو ردع دولي.
حسابات إسرائيل ستقوم على توجيه ضربات مؤلمة إلى المناطق الداعمة لـ«حزب الله»؛ بغرض استدعاء ما هو كامن في نفوس كثيرين، الذين يعدون تضامنهم مع غزة لا يعني دخول لبنان في حرب مع الدولة العبرية.
يقيناً هذه الرؤية مسيطرة على معظم المناطق الواقعة خارج سيطرة «حزب الله»، ولعل شعار «لبنان لا يريد الحرب» أحد تجلياتها، ولكنّ هناك تياراً ليس بالقليل داخل مناطق نفوذ الحزب يصرّح -ولو همساً- بأن التضامن مع غزة والقضية الفلسطينية لا يعني الدخول في حرب مع الدولة العبرية.
إسرائيل ستستهدف المدنيين في المناطق الداعمة لـ«حزب الله»؛ بغرض دفعهم إلى التخلي عن هذا الدعم، وهي تنسى أو تتناسى أن هذا الاستهداف قد يخلق حالة غضب ضد «حزب الله»، وسيحمّله كثيرون مسؤولية ويلات أي حرب، ولكنهم سيعودون في دورة جديدة مع جيل جديد، لكي ينخرطوا في تنظيمات الثأر من إسرائيل؛ لأن نتائج هذا النوع من جرائم استهداف المدنيين معروفة، ومع ذلك قد تكرّرها إسرائيل؛ لأنها أصبحت في وضع استثنائي لا يردعه أحد.
صحيح أن «حزب الله» حاول طوال الأشهر الماضية أن يراعي واقعه المحلي، وكيف أن لبنان منقسم حول هذه الحرب، وأغلب سكانه لا يريدونها، واستمرت عملياته العسكرية في إطار قواعد الاشتباك القديمة، ولكنّ ترسانته العسكرية باتت تقلق إسرائيل، وتحالفه الوثيق مع إيران وتدخله الفج في سوريا أفقده جانباً مؤثراً من حاضنة شعبية عربية تمتّع بها طوال معركة تحرير الجنوب اللبناني.
في حال اشتعلت الحرب ستستخدم إسرائيل استراتيجية لن تستهدف فيها فقط عناصر «حزب الله» ومقاتليه، إنما أحياء مختلفة وعلى رأسها مناطق نفوذه، وأن ما يجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة في تنفيذ هذا المخطط هو قدرة «حزب الله» على الرد وصعوبة (ولا نقول استحالة) أن تتورط إسرائيل بشكل كامل في معركتين ستدفع في الثانية ثمناً كبيراً؛ لكنّ هذا الثمن لن يردعها بشكل كامل.