بقلم - عمرو الشوبكي
حين يكون بلد مثل مصر زاخرًا بروعة الآثار والمبانى القديمة حتى جبّانات الموتى، وحين تكون الغالبية الساحقة من مساحته صحراء جرداء يمكن بناء المدن الجديدة والمحاور عليها لتخفيف الضغط على القاهرة، يصبح من العبث تحت مسمى التطوير استهداف الكنز الحقيقى الذى تمتلكه مصر وهو تراثها القديم وعمارتها التاريخية، التى هى جوهر شموخها وسحرهامحزن النقاش الذى دار بين المهندس المسؤول عن تطوير منطقة السيدة نفيسة والمعمارية العالمية الدكتورة جليلة القاضى- مؤلفة واحد من أهم الكتب عن جبّانات مصر، وهو: «Architecture for the Dead» العمارة للموتى، الصادر عن الجامعة الأمريكية فى القاهرة (AUC Press)- والذى قال فيه: «سنهدم المقابر من أجل الصالح العام»، ولم يلتفت إلى كل الكلام العلمى والتاريخى عن قيمة هذه المقابر التاريخية والثقافية، ودخل فى جدال مع الحاضرين لم يتراجع فيه عن تصوراته.
يجب ألا تكون المحاور على أهميتها على حساب المبانى القديمة، إنما تحتاج إلى تنظيم مرورى فى مواجهة «التوك توك والميكروباص» الذى غزا المناطق الممتدة من السيدة نفيسة والسيدة عائشة وحتى الإمام الشافعى.
مطلوب أن تصبح القاهرة القديمة متحفًا مفتوحًا، وتنظيفها وتجديدها وتنظيمها سيحولها إلى مركز سياحى عالمى يدر على البلاد دخلًا كبيرًا إذا كان التفكير فقط فى العائد المادى.
علينا أن نعرف أن جبّانات القاهرة التاريخية التى نشأت تحت سفح المقطم فى القرن السابع الميلادى دُفن فيها من الصحابة عمرو بن العاص وعقبة بن نافع وأبوذر الغفارى وآخرون، وتوسعت بعد ذلك بموازاة مدينة الأحياء، وأضافت كل أسرة حكمت مصر تجمعًا جنائزيًا جديدًا، وشيّدوا بها أضرحة للحكام وأولياء الله الصالحين من «آل البيت» وغيرهم، وفى عصر محمد على شيّد حوش الباشا وتوفيق و«البرنسيسات» وكل باشوات محمد على وأعيان مصر ورموزها الثقافية فى مجالات السياسة والفن والشعر والأدب، حتى أصبح عندنا فى بداية القرن العشرين تجمع هائل، مساحته خمسمائة فدان وطوله ١٢ كم من الشمال إلى الجنوب، يضم رفات المصريين ويُعتبر مكونًا أساسيًا من الصورة البصرية لمدينة القاهرة، ويضم ٧٥ أثرًا مسجلًا من كل العصور تمثل 15% من الآثار السليمة، وتعبر أيضًا عن استمرار ثقافة الاهتمام بالموت والمقابر منذ قدماء المصريين.
الجبّانات فى كثير من دول العالم هى رئة للمدن ولحظة تأمل فلسفى وصفاء نفسى حتى فى المجتمعات الغربية التى نقول عنها مادية، وهى فى بلد مثل مصر مكون ثقافى خاص منذ الفراعنة لا يجب تجاهله.
الحفاظ على تراثنا ومعمارنا ومقابرنا فرض عين على الحكومة، يجب عدم التخلى عنه.