بقلم : عمرو الشوبكي
لا تتعلم أحيانًا الشعوب من التجارب الأخرى، خاصة لو كانت تجارب بلاد جارة، وأن ما يجرى فى السودان اختلف فى بعض مساراته عن تجارب عربية أخرى من زاوية الإيمان بالمسار التفاوضى، ووجود قناعة لدى أغلب قوى الحرية والتغيير بضرورة الوصول لحلول وسط مع المجلس العسكرى بما فيها تحصين المجلس السيادى من المحاكمة مثلما جرى فى بلاد كثيرة حين اعتبرت أن محاكمة بعض العسكريين ستعنى محاكمة المستقبل، فاختاروا الأخير وطويت مرارات كثيرة.
وتجرى حاليا فى أديس أبابا مفاوضات صعبة بين المجلس العسكرى وقوى الحرية والتغيير، أسفرت عن وجود مسودة اتفاق انتقالى، رفض التوقيع عليها الحزب الشيوعى السودانى واللجنة الثورية، لأنها تعطى حصانة للمجلس السيادى وأيضا تعطى صلاحيات للأجهزة الأمنية فى اختيار الوزراء وأعضاء المجلس التشريعى.
مشاهد الأيام الثلاثة الماضية مقلقة، فيكفى متابعة ما تقوم به الجزيرة من تحريض يومى ضد المسار السياسى، وضد محاولات الاتفاق بين المجلس العسكرى وقوى الحرية والتغيير لنعرف حجم التحديات الملقاة على هذا البلد، فقد أعادت أمس الأول فى كل نشراتها الإخبارية فيديو لمائة طالبة يهتفن ضد الصادق المهدى أثناء زيارته لإحدى جامعات الخرطوم (حزب الأمة تسقط بس) من أجل أضعاف المسار الإصلاحى، لأنهن اعتبرن أن بعض رموزه لديهم قنوات اتصال مع الإمارات (فليس مهمًّا مصلحة الشعب السودانى)، وهى تذكرنى بنفس هتافات تيارات المراهقة الثورية ضد عمرو موسى عقب ثورة يناير، وعاد معظمهم وندموا على ذلك.
استمرار الضغط على المجلس العسكرى من خلال الشارع وإخفاق المسار التفاوضى سيكون كارثة على السودان، فى حين لايزال قادة المجلس العسكرى، خاصة حميدتى، يجوبون مدن السودان العميقة ويجذبون جمهورًا محافظًا وتقليديًّا ستكتشف قوى الحرية والتغيير أنه أكبر مما تتخيل.
الخيار الثورى خيار من متاحف التاريخ، ونجاح تجارب الانتفاضات العربية متوقف على نجاح الخيار الإصلاحى فى وضع خطوات أولى نحو بناء دولة قانون وعلى حلول وسط وعلى الوعى بتوازنات القوى، وفشلها سيعنى العودة لنظم أكثر استبدادية من النظم التى ثارت عليها هذه الشعوب، لأن الأخيرة ستعتبر أن حصيلة الثورات هى الفوضى وإضعاف المؤسسات (ضعيفة أصلًا فى السودان).
سيظل التحدى الحقيقى أمام السودان، الذى قدم واحدة من أنبل تجارب الانتفاضات العربية وأكثرها إصرارًا ومدنيةً، هو خيار «تطويل» الفترة الانتقالية بناء على رغبة قوى الحرية والتعيير (حذرنا منه مرارًا وتكرارًا)، فالمطلوب تقصير الفترة الانتقالية لتصبح عامًا واحدًا على الأكثر، لأن إدارة بلد معقد مثل السودان عبر مجلس سيادى غير منتخب يخضع لتوازنات كثيرة ستعنى عمليًّا عدم القدرة على الإنجاز فى أى ملف اقتصادى أو سياسى أو حتى أمنى.
التوافق على الرجل/ المشروع الجسر بين القديم والجديد وبين العسكريين والمدنيين، هو الرهان الأسلم للشعب السودانى.