والمؤكد أنه وفق أي منظومة قيم مدنية وإنسانية ودينية لا يمكن تبرير استهداف المدنيين أيا كانت جنسياتهم أو دينهم أو أصلهم العرقي، ويجب فعلاً محاربة التطرف والعنف، ولكن يبقى السؤال: لماذا زاد العنف داخل إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة وتصاعدت صور مختلفة من عمليات المقاومة المسلحة؟ وهل يمكن وصفها بالإرهاب كأنها تجري في واقع سويدي أو سويسري، حيث الرخاء والكرامة الإنسانية ودولة القانون، أو أنها عمليات عنف تجري في ظل سلطة احتلال اعتمدت سياسة القتل والاستيطان والإهانة للشعب الفلسطيني؟
والحقيقة أن السؤال الذي يجب أن يناقشه العالم هو: لماذا تصاعد دور المتشددين، ومن المسؤول عن إجهاض مشروعات الاعتدال العربي والفلسطيني على مدار ما يقرب من نصف قرن؟
إن بداية مسار التسوية السلمية جاءت عقب مبادرة الرئيس السادات وزيارته للقدس ثم توقيعه على اتفاقية صلح منفرد بين مصر وإسرائيل لم يكن محل إجماع عربي، ولكنه أسفر عن استرداد مصر لأراضيها المحتلة في سيناء، وجعل الغالبية العظمي من المصريين الداعمين بشكل مطلق للشعب الفلسطيني والرافضين للجرائم والانتهاكات الإسرائيلية يتمسكون بخيار الضغوط السياسية ويطالبون حكوماتهم بأن تمارس مزيدا من الضغوط السياسية والإعلامية والقانونية على الدولة العبرية وتفضح سياساتها العدوانية في كل المحافل الدولية، دون أن يعني ذلك تخليهم عن الخيار السلمي والذهاب نحو الحرب والمواجهات المسلحة، وهو مكسب كبير كان يمكن أن تثمنه إسرائيل وتحاول أن تعممه في باقي الساحات العربية وخاصة الفلسطينية بإعادة الأرض المحتلة مقابل السلام، ولكنها فعلت العكس.
واستمرت إسرائيل في سياساتها العدوانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولم تنجح اتفاقية كامب ديفيد في أن تقدم حلا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة، واندلعت انتفاضة الحجارة الشعبية والمدنية في 1987 ونالت تعاطفا عالميا غير مسبوق، وأدت إلى فتح باب المسار السياسي والتوقيع على اتفاق أوسلو في 1993، الذي سمح بعودة منظمة التحرير إلى قطاع غزة والضفة الغربية وإقامة السلطة الفلسطينية، ووعد بتحويل الحكم الذاتي الذي ناله الفلسطينيون في مناطق (أ) و(ب) بالضفة الغربية مع قطاع غزة إلى دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وقد فتح هذا المسار الطريق أمام تبلور تيار الاعتدال العربي وتصاعد تأثيره، خاصة عقب توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو وتراجع قوى الممانعة العربية حتى اختفت تقريبا بعد سقوط صدام حسين والقذافي واختفاء اليمن الجنوبي وانتقال منظمة التحرير إلى محور الاعتدال، أما سوريا فقد خرجت عمليا من هذا المحور بعد أن أنهك جيشها في حروب لبنان ثم الحروب الداخلية واكتفت برفع شعارات الممانعة دون أن تدخل في مواجهة عسكرية واحدة مع إسرائيل منذ حرب 1973 بهدف تحرير الجولان.
ومع تعثر مسار أوسلو وتفجر العنف في الأراضي الفلسطينية، قام الرئيس الراحل حسني مبارك بعقد مؤتمر «صناع السلام» في شرم الشيخ في 1996 برعاية مصرية أميركية، وحضره الرئيس الأميركي كلينتون والروسي يلتسين والفرنسي شيراك والملك عبد الله وياسر عرفات، وغيرهم من قادة العالم العربي والعالم، ووقع على بيانه الختامي الرئيسان المصري والأميركي، وأكد رفض الإرهاب وحق الفلسطينيين في العيش بسلام وفق حدود آمنة.
وعقب انتفاضة الأقصى ودخول مسار أوسلو إلى غرفة الإنعاش بسبب سياسة الاستيطان الإسرائيلية أطلق الملك عبد الله في 2022 مبادرة السلام العربية التي أعلنت في مؤتمر القمة العربية في بيروت، ونصت بشكل واضح على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة بما فيها الجولان وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، عاصمتها القدس الشرقية، في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وهنا سنجد أن الموقف العربي كان متسقا مع قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية ولم يخرج عنها، في حين أن إسرائيل لم تلتزم بأي من هذه القرارات ولم يحاسبها أحد؛ لأنها ظلت دولة استثناء فوق القانون الدولي والشرعية الدولية.
يقينا، رغم الأخطاء العربية والانقسام الفلسطيني، فإن العالم العربي ظل متمسكا بالخيار السلمي وبحل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية، في حين دمرت إسرائيل بالمعنى الحرفي للكلمة هذا الحل. ويكفي القول إن اتفاق أوسلو الذي مثل نقطة بداية لحل الدولتين عدّته إسرائيل عمليا كأنه غير موجود وضاعفت أعداد المستوطنين وكأن ليس هناك شعب فلسطيني.
ويلاحظ أن عدد المستوطنين عشية التوقيع على اتفاق أوسلو كان نحو كان 115 ألف مستوطن فقط، واقترب من 400 ألف في 2015 حتى وصل حاليا إلى نحو 600 ألف مستوطن، ويكفي ما ذكرته وزيرة المواصلات الإسرائيلية قبل أسابيع قليلة من عملية 7 أكتوبر وعقب افتتاحها لطريق «التفافية» في الضفة الغربية تخص المستوطنين، أنهم «لن يروا فلسطينيا واحدا في حال أخذوا هذه الطريق».
إن هذه اللغة العنصرية، والممارسات الإسرائيلية في بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين وقتلهم حتى وصلت أعدادهم في أثناء عدوانها على غزة إلى نحو 10 آلاف مدني بينهم 4 آلاف طفل، أضعفت تيار الاعتدال الفلسطيني وقضت على فرص التسوية السلمية.إن التشدد والعنف لا يهبطان على الشعوب فجأة من السماء إنما يصنعهما واقع يغلق أبواب الأمل، ويقضي على العدل ويكرس التمييز ويسجن الشعب الفلسطيني ويحاصره، والمطلوب تغيير هذا الواقع حتى يمكن محاصرة خيار التشدد والعنف.