بقلم:عمرو الشوبكي
لا أفهم لماذا يضع البعض فى أى نقاش اقتصادى ثنائية إما هذا أو ذاك، فالبعض يهاجم بناء الطرق والمحاور والمدن الجديدة، وكأنها سبب كل المشاكل، وهناك من يرى أن طريق التنمية وجذب الاستثمارات هو بناء الطرق والمدن الجديدة، والحقيقة أن الاثنين ليسا فى مواجهة بعضهما البعض ويمكن أن نسير فى المسارين، وكما ركزنا سابقا على المسار الأول فإنه مطلوب أن يكون تركيزنا فى الفترة القادمة على المسار الثانى، أى دعم المشاريع المنتجة وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية.
إن التطوير الذى عرفته مصر ودول العالم لم يكن فى أى مرحلة معياره الأساسى هو الامتداد العمرانى وشبكات الطرق فقط، إنما فى نماذج للتنمية الصناعية والزراعية، فحركة التصنيع التى شهدتها مصر فى الستينيات قامت على القطاع العام وحققت أعلى معدل للتنمية فى العالم الثالث فى ذلك الوقت وهو 6.6% وبنى أهم مشروع حقيقى للتنمية وهو السد العالى الذى حمى البلاد من أخطار الفيضانات والجفاف على السواء، كما أنها عرفت انتشارا لقصور الثقافة فى المدن الكبيرة والصغيرة، لتنوير الناس وليس بالضرورة مركزا ثقافيا واحدا مهما كانت ضخامته، وفى نفس الوقت عرفت مصر امتدادا عمرانيا فى حلوان ومصر الجديدة والمهندسين ولم يعتبره أحد هو أساس التنمية والتطوير.
كما عرفت مصر فى الثمانينيات نموذجا آخر للتنمية الرأسمالية، فأهم رجالات الصناعة الذين بنوا مصانع تشغل عمالا وتنتج وتصدر ظهروا فى هذه الفترة، وهى أسماء معروفة فى مجالات مختلفة من السجاد مرورا بالألبان والعصائر وانتهاء بالحديد والكابلات والسيراميك والمنتجات الغذائية وغيرها، صحيح أننا لم نبن صناعات ثقيلة أو صناعة سيارات مثلا، ولم نتطور فى البحث العلمى، لكن كان فى البلد كيانات رأسمالية منتجة غطت السوق المحلية وصدرت ولم يعتبر أحد أن بناء مدن جديدة فى 6 أكتوبر أو التجمع الخامس أو غيرها هو معيار التطور والتنمية.
ومن هنا فإذا كانت الحكومة قد أعطت أولوية فى الفترة السابقة لتطوير شبكة الطرق وبناء المحاور والمدن الجديدة من أجل تشغيل عمالة كثيفة فى ظروف الاضطراب السياسى، فإنه حان الوقت أن تعطى الأولوية فى الفترة الحالية للكيانات المنتجة، سواء كانت صناعية أو زراعية، خاصة فى ظل تراجع القوة الشرائية للغالبية العظمى من المصريين الذين لم يعودوا قادرين على شراء عقارات جديدة أو حتى الذهاب للمقاهى المنتشرة تحت الكبارى.
يقينا المؤشرات الاقتصادية الصعبة التى تواجهها البلاد يجب أن تجعلنا ننتقل من المسار الأول أى مسار الإنشاءات والمبانى إلى المسار الثانى أى مسار الإنتاج الذى يصنع ويبنى ويشغل، وهو يتطلب مراجعة المناخ العام سياسيا واقتصاديا لجذب الاستثمار وضمان المنافسة العادلة بين أطرافه حتى يتحقق التطوير الحقيقى الذى ينتظره الناس فى الإنتاج والعدل والأولويات الصحيحة.