بقلم : عمرو الشوبكي
ساحة التحرير فى العراق، ساحة الشهداء فى لبنان، ساحة البريد فى الجزائر، وساحة القيادة العامة فى الخرطوم، هى كلها أسماء ساحات الموجة الثانية من الانتفاضات العربية، وقبلها كان ميدان التحرير فى مصر وشارع الحبيب بورقيبة فى تونس، وكلها تشابهت فى قدرتها على خلق عالم موازٍ للمجتمع والسلطة المحيطين بها. \
وتتعمق هذه الحالة بقدر طول فترة الاعتصام حتى تنفصل عن أغلب المجتمع الذى لا يشاركها الاعتصام، ولا يسعد بقطع الطرقات و«وقف الحال» بتعبير قطاعات محافظة كثيرة داخل المجتمع. إن ساحة التحرير فى العراق كانت لافتة فى العمل الموازى، وصورة المدينة الفاضلة رغم قسوة المصادمات التى جرت مع القوى الأمنية، فقد رمم المتظاهرون الطرق ونظفوها وزينوها بصور الشهداء وعبارات ثورية، وجلبوا مولدات خاصة حتى لا تنقطع الكهرباء كما يحدث فى باقى العراق، وتابعوا مع الطلاب دروسهم وعلموهم الموسيقى والرسم وأقاموا معارض كتب وندوات ثقافية، وقدموا وجبات غذائية متنوعة وعملوا مستشفى وأدوية واستخدموا «التوك توك» كوسيلة مواصلات مجانية من ساحة التحرير إلى باقى أحياء بغداد، وأحضروا أئمة للصلاة بالناس.
وقد تكررت نفس المشاهد فى كل ساحات الاحتجاج العربى مع اختلاف فى الشكل، لكن المضمون واحد: وهو البحث عن «ساحة فاضلة» يتحرك فيها الناس بكل حرية ودون قيود النظم القائمة، وهى حالة مغرية لكثيرين وتدفع البعض إلى محاولة تثبيتها وعدم الخروج منها حتى لو أدت إلى عزلة «ثوار الساحات» عن أغلب المجتمع.
يقينا التحدى الذى تواجهه كل ساحات الاحتجاج هو فى قدرتها على تقديم مشروع سياسى بديل للنظم القائمة، وهذا سيعنى الخروج من الحالة المثالية النقية التى يقدمها «مجتمع الساحات» والدخول إلى عالم السياسة وتوازنات القوى والمصالح، وهذا كان التحدى الكبير أمام ساحة السودان التى اختارت قوى التغيير فى لحظة صحيحة إحداث قطيعة مع «عالم الساحات» ودخلت مفاوضات شاقة مع المجلس العسكرى، رفضها تيار من المعتصمين، لكنها أكملت طريقها للنهاية حتى وصلت إلى اتفاق المرحلة الانتقالية الذى وضع السودان على أعتاب مرحلة جديدة لا تخلو أيضا من التحديات.
ساحات الاحتجاج العربية مازالت مغرية لكثيرين خاصة فى ظل القيود المفروضة على حرية الرأى والتعبير وأزمات معظم النظم العربية اقتصاديا وسياسيا، وتكرارها لا يعنى تحقيق النجاح، إنما هى لحظة تشبه من رفع قدمه ليتقدم خطوة، لكنه لم يلامس الأرض بعد، وقد لا يلامسها وقد تكون خطوة للخلف، لأن الخطوة إلى الأمام ستعنى امتلاك مشروع بديل ينقل البلاد نحو العدل ودولة القانون والديمقراطية، وليس فقط البقاء فى ساحات الاحتجاج، بصرف النظر عن القيمة النبيلة لأى تحرك جماهيرى على أوضاع سيئة، وشجاعة من قاموا بهذه الخطوة وبثوا فى بلادهم الأمل والأحلام الكبيرة.