بقلم - عمرو الشوبكي
أثارت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، في مؤتمر دافوس، والتى طالب فيها أوكرانيا بالتخلى عن أراضٍ لإنهاء الحرب «Ukraine should cede territory to Russia to end war» ردود فعل واسعة، بعضها رافض، وخاصة من الجانب الأوكرانى، والبعض الآخر أشاد بها، وكثير منهم في دوائر الإدارة والحكم تحدّثوا في الغرف المغلقة عن أهمية أخذ هذا الرأى بعين الاعتبار، وهو في كل الأحوال تصور محل دراسة لدى كثير من دوائر صناعة القرار في أمريكا، حتى لو قالت عكسه في العلن إلا أنه يعتبره أحد السيناريوهات لإنهاء الحرب.
وحثَّ «كيسنجر»، في تصريحاته «اللامعة»، الولايات المتحدة والغرب على عدم السعى إلى هزيمة محرجة لروسيا في أوكرانيا، محذرًا من أن ذلك قد يؤدى إلى تفاقم استقرار أوروبا على المدى الطويل، وقال إنه على الدول الغربية أن تتذكر أهمية روسيا بالنسبة لأوروبا، وألّا تنجرف «فى مزاج اللحظة» (in the mood of the moment،) وطالبها بإجبار أوكرانيا على قبول المفاوضات «بالوضع الراهن».
وختم تصريحاته بالقول إنه يجب أن تبدأ المفاوضات في الشهرين المقبلين قبل أن تؤدى الحرب إلى اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة.
والمؤكد أن أهمية كيسنجر ليست فقط في خبرته الطويلة (٩٩ عامًا) في مجال الدبلوماسية والسياسة الخارجية، إنما لكونه لا يتولى وظيفة حكومية، فهو ليس وزيرًا ولا غفيرًا، ومع ذلك أو بالأحرى بسبب ذلك أصبحت لديه القدرة على طرح أفكار جريئة ومستقلة لا يستطيع مَن هم في دوائر صناع القرار طرحها.
ومن هنا فإن أهمية ما ذكره كيسنجر لا تكمن فقط في مضمونه وتوقيته، إنما في تأكيده قيمة ومعنى حضور الآراء التي يطرحها الخبراء والباحثون والكُتاب من خارج المواقع التنفيذية والإدارية، التي يمكن أن يستفيد بها أهل الحكم مع المتخصصين وجانب من الرأى العام.
يقينًا، النظم المتقدمة أو الراغبة في التقدم تعتبر وجود أشخاص خارج سلطتها الإدارية ولديهم القدرة على إنتاج أفكار مستقلة فرصة حقيقية لمراجعة أخطائها أو إضاءة جوانب لا يستطيع مَن هم في إدارة العمل اليومى أن يروها. ولذا وجدنا كيف احتفت واهتمت الصحافة الأمريكية والرأى العام بتصريحات كيسنجر الأخيرة رغم أنها مخالفة للخطاب الأمريكى السائد بخصوص الحرب في أوكرانيا، ولم تعتبرها «أقل وطنية» من الآراء التي تتبنى الدوافع الرسمية لدعم أوكرانيا وإطالة أمد الحرب، وحتى التعليقات الأوكرانية التي هاجمت تصريحات كيسنجر لم تطالبه بالصمت لتقدم سنه، ولم تعتبره عميلًا روسيًّا، إنما أعلنت اختلافها مع ما قال، ولم تفعل كما فعل البعض عندنا مع الأستاذ هيكل حين تجاهلوا قيمته وأهمية ما يقول (اتفاقًا واختلافًا)، واعتبروا خروجه من وظيفته في «الأهرام»، في منتصف السبعينيات، استسهالًا للهجوم عليه في أمور لا علاقة لها بمضمون ما يقول.