عاشت مجتمعات كثيرة فى ظل نظم غير ديمقراطية ولكنها عرفت مساحات للتنفيس السياسى فرّغت احتقانات كثيرة، وأجهضت ثورات، وأضعفت احتجاجات، وهمشت عنفاً.
والمؤكد أن التنفيس السياسى كان من سمات بلدان عربية وغير عربية كثيرة، على رأسها مصر، فقد اتسم نظام مبارك غير الديمقراطى بقدرة هائلة على التنفيس السياسى جعلت بقاءه وخروجه من السلطة يتم بصورة غير دموية مقارنة بتجارب أخرى فى العالم العربى، وحافظ على تماسك المجتمع من الانقسامات والتخوين والعنف المادى واللفظى وأبقى صراعاته بين نخبه السياسية.
والحقيقة أن هناك نظماً عربية أخرى غير ديمقراطية حافظت على بقائها بالتنفيس، ومعه الكفاءة والرشادة السياسية وهامش ديمقراطى مقيد مثل المغرب، وهناك دول أخرى وضعت نظاما سياسيا متكاملا، عُرف فى علم السياسة بالتعددية المقيدة، مثل إيران، وتركيا وكثير من دول أمريكا الجنوبية فى بداية تحولها الديمقراطى، كلها كانت لديها تعددية محكومة بخطوط حمراء، مثل نظام الولى الفقيه فى إيران الذى لا يُمس، حتى لو اختلفت تحت إطاره أحزاب وتيارات سياسية تنفس عن الناس، وهناك المؤسسة العسكرية فى تركيا التى كانت تمتلك حق الفيتو على العملية السياسية وتدخلت ثلاث مرات بصورة دموية، ولكنها فى كل مرة سمحت لهامش واسع من التنفيس السياسى، بل وتداول السلطة بين الأحزاب العلمانية المختلفة بشرط أن تكون موالية للجيش ومحافظة على العلمانية، وتكررت مشاهد مشابهة فى كثير من دول أمريكا الجنوبية فى السبعينيات والثمانينيات حين قام الجيش بانقلابات عسكرية عديدة فى البرازيل والأرجنتين وغيرها، ومع ذلك كان هناك هامش ما للتنفيس السياسى ضاق واتسع من بلد إلى آخر، إلا أنه ظل موجودا.
يقيناً أن نظماً مثل ليبيا القذافى، وسوريا «آل الأسد»، وعراق صدام حسين، كلها أُمم فيها بالكامل المجال العام والسياسى لصالح السلطة القائمة ولم تعرف أى مساحة للتنفيس السياسى، فكانت نهايتها مأساوية ودامية، وكانت هذه النظم سببا فى الغزو أو التدخل الأجنبى وهدم الدولة ومآس مازال يعيشها سكان هذه الدول.
والحقيقة أن فن التنفيس السياسى لا يعنى أن كله تمام، ولا أن البلد ديمقراطى، ولا أنه بالضرورة على الطريق الصحيح، إنما يعنى أنه قادر على أن يخرج من مراحل الأزمات الكبرى بأقل الخسائر، وأن يكون قادرا على أن يضع نفسه على الطريق الصحيح.
والحقيقة أن التنفيس لا يعنى فقط هامش الكلام والاحتجاج المقيد الذى عرفناه فى عهد مبارك، إنما قد يكون إنجازاً حقيقياً على الأرض يعوض غياب الديمقراطية، فبلاد أوروبا الشيوعية كانت تعيش فى ظل دول قوية أنجزت فى الصناعة والزراعة والفنون والبحث العلمى ونسب الأمية المنخفضة، وكانت مشكلتها فى وجود نظم سياسية شمولية، ولذا حين تحولت نحو الديمقراطية كانت قضيتها مع نظام سياسى غير ديمقراطى وليس أشباه دولة، كما تحدث الرئيس السيسى عن مصر.
ونفس الأمر يمكن سحبه على تجربة عبدالناصر، فلم تكن بالتأكيد تجربة ديمقراطية، ولكنها حققت إنجازات اجتماعية واقتصادية ودوراً مؤثراً فى العالم عوضت الناس غياب الديمقراطية، فيقيناً كان الوضع الاقتصادى أفضل مما هو عليه الآن، ومعدلات الفساد أقل بما لا يقارن، وشعبية الرجل واسعة واستثنائية، وشباب مصر كان يناضل من أجل الاستقلال والتحرر كأولوية وليس الديمقراطية، وكانت الدولة «القطاع العام» تضم أفضل الخبرات والكفاءات، وفرص الناس فى العمل فى المؤسسات الخاصة أو العالمية محدودة جدا، وكل العاملين فى مصر تقريبا يعملون فى مؤسسات الدولة، ويقرأون أهرام هيكل ومعها الأخبار وأحيانا الجمهورية، ويشاهدون ثلاث قنوات مصرية لا عالم السماوات المفتوحة ولا مواقع التواصل الاجتماعى.
كان هناك عصر كامل لم يكن الطلب فيه على الحرية السياسية واسعاً، وكانت حدود التنفيس السياسى تقف عند معارك التحرر من الاستعمار والفرح بالمشاريع الكبرى (المدروسة جيدا، وأثبتت مع الزمن نجاحها، كالسد العالى وغيره) وكان لديها تنظيم سياسى واحد مثل كل تجارب التحرر الوطنى فى العالم كله، ضم الغالبية العظمى من الراغبين فى العمل السياسى.
وجاء عهد مبارك وتراجعت الإنجازات الكبرى، وتراجعت كفاءة الدولة، وعرفت ترهلاً سياسياً وإدارياً غير مسبوق، ولكنها حافظت على التنفيس السياسى بامتياز، فالمعارضة وصل تمثيلها فى برلمان 2005 إلى 120 نائباً، كان يمكن لهم أن يصرخوا وينتقدوا وينفسوا، ولكنهم لن يغيروا النظام، وحين جاءت انتخابات 2010 المزورة بالكامل وسقط كل من لم يرض عنهم أحمد عز، سواء من المعارضة أو من أعضاء الحزب الوطنى، كانت نهاية النظام الحاكم.
فى مصر، هناك مسطرة دقيقة حافظت على بقاء الدولة، وحين يخرج عليها حاكم تكون النهاية، فمصر غير ديمقراطية منذ العهد الملكى مروراً بالعهود الجمهورية وحتى الآن، ولكن دائما كانت هناك حدود للبطش والقمع، فعبدالناصر لم يقتل خصومه ولا رفاق سلاحه حين اختلف معهم مثلما فعل القذافى وصدام حسين، أما السادات فحين اعتقل فى 5 سبتمبر كل التيارات السياسية كانت النهاية المأساوية فى 6 أكتوبر، وحين قضى مبارك على الركن الأساسى لنظامه وهو التنفيس السياسى بتزوير كامل لانتخابات 2010 كانت ثورة يناير (راجع مقالى فى 2010 «عالم عز الافتراضى» الذى توقعت فيه نهاية النظام عقب هذه الانتخابات).
على الدولة والحكم ألا يركزا فى البحث عن سد منافذ التنفيس السياسى: مواقع التواصل الاجتماعى، سلم نقابة الصحفيين، أطفال شوارع يغنون ويشتمون ويتجاوزون فيُحبسون (يمكن قرصة ودون لا كسر رقبة)، مظاهرة احتجاجية فى 25 إبريل فيذهب المشاركون فيها للحبس لسنوات، تحريض يومى على النخبة والسياسيين والأحزاب وهم لا يحكمون ولا حتى يُستشارون، ويعانون من الضعف والانقسام.
يندهش المرء من تلك الروح المعادية للتنفيس السياسى، وننسى أن أمامنا مصائب «متلتلة»، فلسنا دولة غنية لا تحتاج إلى عملية سياسية، وليس لدينا إنجاز اقتصادى قادر على أن يحسن من أوضاع فقراء المصريين، وشهدنا تراجعاً كبيراً فى الاستثمار، وانهياراً فى السياحة، وانقساماً سياسياً عميقاً بين أغلبية مؤيدة وأقلية مؤثرة معارضة، وانقساماً آخر مدنياً/ إخوانياً، ونأتى ولا نرى إلا مساحة التنفيس السياسى لنتفنن فى إغلاقها بدلا من أن نتفنن فى الحفاظ عليها.