عمرو الشوبكي
كتبنا قبل الثورة عن الديمقراطية التى لا تنقذ الدولة الفاشلة، وكتبنا بعدها عن الطريق إلى الدولة الفاشلة، ويبدو أننا أصبحنا محاصرين يومياً بمظاهر فشل تتعمق كل يوم حتى تضعنا فى مصاف الدول الفاشلة التى لا تنقذها ثرثرة السياسيين ولا ثورية الشباب ولا دعاء الإسلاميين المخلصين، لأن هناك فشلاً حقيقياً لمن فى الحكم فى التعامل مع أى مشكلة تعانى منها مصر.
الدولة الفاشلة مصطلح سياسى يختلف عن الدولة المستبدة أو غير الديمقراطية، فهو يعنى أنه، بصرف النظر عن النظام السياسى الموجود سواء كان ديمقراطياً أو غير ديمقراطى، ثورياً أو غير ثورى، مدنياً أو إسلامياً، فإن مؤسسات الدولة تتسم بانعدام الكفاءة والفساد وسوء الإدارة، وهو ما يصيب أى تجربة تحول ديمقراطى بالفشل.
وقد حدد هذا المصطلح أسساً جديدة للمقارنة بين الدول المختلفة تتجاوز الفارق بين دول ديمقراطية وغير ديمقراطية لتصل إلى مفهوم أكثر شمولاً وعمقاً سمى «الدولة الفاشلة»، وتضمن رصداً لأداء مؤسسات الدولة وشرعيتها وقدرتها على فرض هيبة القانون، وحجم كفاءتها السياسية والاقتصادية.
والحقيقة أن أسوأ ما يهدد مصر هو فشل «إخوان الحكم» الذريع فى التعامل مع إرث مبارك فى الدولة الفاشلة فى الأمن والتعليم والصحة والقضاء، وفى العلاقات المدنية العسكرية، وحرصهم على السيطرة والهيمنة على مؤسسات الدولة لا إصلاحها عبر خطط واضحة عرفت فى تجارب النجاح بـ«الإصلاح المؤسسى»، لتصبح مصر أمام خطر حقيقى يتمثل فى إعادة إنتاج النظام القديم ولو فى قالب جديد.
وقد عرف العالم دولاً شهدت انتخابات ديمقراطية، وبعضها فتح باباً لتداول السلطة، ومع ذلك اعتبرت دولاً فاشلة من حيث المعايير السابقة، ولعل المثل الكاريكاتورى المضحك المبكى هو الصومال، التى احتلت المركز الأول بين الدول الأكثر فشلاً فى العالم، رغم أن فيها رئيساً قيل إنه منتخب وأحل مكان رئيس سابق، وبها برلمان يقال إنه يجتمع.. كل ذلك لم يخف أو يوقف انهيار مؤسسات الدولة الكامل وغيابها العملى عن حياة المواطنين فى ظل حرب أهلية عصفت بكل شىء: الدولة والبشر، ونسيها العرب والعالم حتى بات مهددا بخطر التحلل والفناء.
العراق بدوره نموذج آخر للدولة الفاشلة، فهو يحتل المركز الخامس وسط ترتيب يضم ١٧٧ دولة فى تقرير أصدرته مجلة «السياسة الخارجية» Foreign Policy الأمريكية الشهيرة قبل الثورة المصرية بقليل، وجاء الثالث عربيا بعد الصومال والسودان، رغم أنه يعرف انتخابات ديمقراطية ونزاهة أكثر من دول كثيرة، لكن جريمة «بريمر»، الحاكم الأمريكى لعراق ما بعد صدام حسين، حين قام بحل الجيش ومؤسسات الدولة، أدت إلى تدمير الدولة والمجتمع العراقى بصورة لم تفلح، حتى الآن، الانتخابات الديمقراطية فى مواجهته.
وهناك أيضا خبرات أخرى ذهبت فى هذا الاتجاه، مثل تجربة باكستان، التى أعن مؤخراً أحد قادتها أنه لن يسمح بنقل التجربة المصرية لبلاده التى عرفت، منذ انفصالها عن الهند، نظماً ديمقراطية وغير ديمقراطية، وقادة سياسيين وعسكريين ورثوا جميعا دولة فاشلة مليئة بالفساد، وأداؤها متدهور لدرجة كبيرة. أما بلد مثل المكسيك فقد عرف تحولاً ديمقراطياً من داخل النظام ومن قلب الحزب الحاكم، ليتسلم النظام الديمقراطى الجديد دولة فاشلة غاب عنها القانون وعمت الرشوة والفساد وانعدام الكفاءة فى كل مؤسساتها، واضطرت الحكومة السابقة أن تفصل، منذ 3 أعوام، ما يقرب من ١٠% من رجال الشرطة نتيجة دورهم النشط فى خدمة المافيا وعصابات الجريمة المنظمة، وليس مجرد التواطؤ معها.
علينا ألا ننسى فى مصر أن ضحايا مجزرة بورسعيد وضحايا حادثة قطار أسيوط قبل شهرين وحادثة قطار البدرشين قبل يومين تدل على أننا نسير فى طريق الفشل نفسه، لأن الحكومة والرئيس مازالوا يتحدثون فى عموميات لا علاقة لها بخطة عمل حقيقية لوقف نزيف الموت على شريط السكك الحديدية، ويرددون الحجج المباركية الشهيرة نفسها بأن هناك نقصاً فى الميزانية، وإهمال السائق، والصيانة وغيرها من الحجج البليدة التى ستعنى عمليا أننا فى انتظار حادثة أخرى يسقط فيها عشرات القتلى ومئات المصابين.
لقد سقط 20 ضحية بريئة على قضبان الإهمال والفوضى والتسيب والرعونة التى لا نريد أن نتركها، سقطوا ضحية فشل حكم وحكومة فى إشعار المواطنين بأن هناك شيئا تغير فى مصر إلا صوت الصراخ والتخوين والاحتجاج والمزايدة، حتى نتأكد أننا سائرون بحزم فى طريق الدولة الفاشلة التى تضمن حق الجميع فى التظاهر والرفض دون أن يستطيعوا تغيير المنظومة القديمة لأن كثيراً من أهل المعارضة مثل أهل الحكم جزء من الأزمة وليسوا طريقاً للحل.
نعم الرئيس والحكومة مسؤولون مسؤولية كبرى عما حدث ليس لأنهم الذين اخترعوا هذه الحوادث التى هى بسبب دولة مبارك الفاشلة، وهى فى النهاية جزء من إرثه فى تخريب مؤسسات الدولة، إنما لأنهم لم يقدموا رؤية للتعامل مع مخلفات هذا الإرث وباعوا الوهم للمصريين فى مشروع النهضة الذى له «جناحان»، ولم يفهموا طبيعة الدولة المصرية التى يحكمونها، وفشلوا فى إدارتها وإصلاحها، وقدموا نموذجا فى الاستئثار بالسلطة يزداد كل يوم.
نعم لو كان هناك فى مصر أعظم رئيس وأكفأ حكومة فلن تحل مشاكلها فى 8 أشهر، ولا يمكن مواجهة الإهمال والفساد فى 4 سنوات ولا يمكن إصلاح كل مؤسسات الدولة فى الفترة نفسها، إنما يمكن البدء فى إصلاح تدريجى لهذه المؤسسات يشعر به المواطن، وليس على طريقة إصلاحات مبارك التى لم تعن إلا السير فى المكان.
للأسف الرسائل التى خرجت من إخوان الحكم بدت كأن ليس لها هدف ولا قدرة ولا رؤية لإصلاح هذه المؤسسات، إنما الانتقام وتصفية الحسابات معها: من القضاء ورجال الأعمال إلى الجهاز الإدارى والشرطة، لأن خطابهم السطحى والاستقطابى يدفع هذه المؤسسات إلى «التمترس» حول الذات ومقاومة أى رغبة فى الإصلاح لأنها بدت كأنها تستهدف كيانهم، وفشل الإخوان فى توصيل رسالة بسيطة مفادها أن إصلاح هذه المؤسسات هو أساسا فى صالح أبنائها، وليس لتصفية الحسابات معهم.
نعم لم يستطع الحكم الجديد أن يقدم رسالة أمل بأن هناك جدية فى إصلاح أحوال هذا البلد ولا رؤية من الأصل للقيام بذلك، وكان يجب على حكم جديد يأتى بعد عهد سماته الفوضى والإهمال أن يكون برنامجه الأساسى هو القضاء على هذه المظاهر، فعدد ضحايا مصر من حوادث العبارات والقطارات والطرق السريعة فى عام واحد يفوق ضحايا الثورة المصرية، ويفوق فى عهد مبارك ضحايا حروبنا مجتمعة، فمصر لم يغتل فيها المعارضون فى الشوارع كما جرى فى ليبيا والعراق وسوريا، إنما سقط مواطنوها البسطاء ضحايا الإهمال فى الأرض والبحر والجو، وكان يجب على «مرسى» وحكومته الفاشلة أن يبدأوا بدراسة هذه الحالة ويجلسوا بأنفسهم مع المسؤولين فى هيئة السكك الحديدية وقادة المرور على الطرق السريعة، (يسقط فى مصر12 ألف قتيل ضحايا حوادث الطرق كل عام)، وكل ما له علاقة بأمن المواطنين، للبدء فى تغيير المنظومة القديمة، لكنهم لم يفعلوا لأنهم نظروا من فوق لطبيعة مشاكل هذا البلد.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"