عمرو الشوبكي
هناك دول تجرى فيها انتخابات نزيهة وتشهد فشلاً فى العملية السياسية، سواء بسبب عدم مشاركة الغالبية العظمى من المواطنين فى الانتخابات أو فى الأحزاب أو حتى فى الشـأن العام، كما أن هناك دولاً لا تؤدى فيها الانتخابات لأى تداول للسلطة، فيفقد الناس الثقة فيها حتى لو كانت كل إجراءاتها نزيهة، وهناك انتخابات تؤدى إلى تداول للسلطة، لا يشعر على أثره المواطن بأى تغيير بين الأحزاب المتنافسة (أحمد مثل الحاج أحمد) فيفقد الثقة فى جدوى الانتخابات وجدوى العملية السياسية برمتها.
إذن اختزال الديمقراطية والعملية السياسية فى الانتخابات أمر لم تثبته تجربة ديمقراطية واحدة.. صحيح أن الانتخابات الحرة النزيهة أحد مظاهر النظام الديمقراطى وأحد مؤشرات نجاح العملية السياسية، ولكنها بالتأكيد ليست المظهر الوحيد.
إن نجاح العملية السياسية يتطلب وجود انتخابات حرة نزيهة، لكنه أيضا يستلزم وجود قدرة للنظام السياسى على دمج أغلب القوى الفاعلة داخل المجتمع فى العملية السياسية والشرعية القانونية وليس فقط فى الانتخابات، وعدم إجراء انتخابات لا يهتم بها أغلب الناس حتى لو شاركت فيها معظم القوى السياسية.
والحقيقة أن نجاح أى نظام يكمن فى قدرته على إدماج كل القوى السياسية والاجتماعية والأجيال الشابة والأفكار الجديدة داخل العملية السياسية، واستجابته، ولو الجزئية، لما تطرحه من أفكار، وفى حال تجمد النظام وفشله فى تجديد نفسه وتطوير أدواته ودمج الجديد الذى يتشكل، فإنه يفقد شرعيته، وقد يسقط كما جرى مع مبارك بعد 30 عاما من بقائه فى السلطة.
والواقع أن العملية السياسية الناجحة هى نتاج لنظام سياسى ناجح- وليس أساساً لانتخابات ناجحة- قادر على الانفتاح على الجديد الذى يتشكل داخل المجتمع، ويدمج التيارات الثورية والمتشددة فى العملية السياسية والديمقراطية ودفعها إلى الاقتناع بجدوى العملية السياسية القانونية ومن ثم الانتخابات، ويساعدها على تغيير خطابها لتعترف بشرعية الصندوق والمسار السياسى والشرعى، كما جرى فى تجارب النجاح مع التيارات الثورية اليسارية، فى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وفى فرنسا مع ثورة الطلاب فى 1968 التى تحول معظم شبابها الثورى والشيوعى والتروتسكى إلى قيادات فى أحزاب إصلاحية اشتراكية.
وتكرر الأمر نفسه فى تركيا التى نجح نظامها العلمانى والديمقراطى على مشاكله الكثيرة بأن يدمج معظم التيارات الإسلامية فى العملية السياسية بعد أن عارضته بشكل جذرى وسعت إلى هدم جمهورية أتاتورك العلمانية، تماماً مثلما سعت الأخيرة إلى إقصائه بشكل كامل من العملية السياسية.
ونتيجة وجود تلك العلاقة التفاعلية بين النظام القائم والتيارات الإسلامية، فقد انفتح النظام السياسى وتطورت التيارات الإسلامية وتغير خطابها من حزب الرفاه الذى أسسه رئيس وزراء تركيا الراحل نجم الدين أربكان- أستاذ رئيس الوزراء الحالى رجب طيب أردوجان- ومثل الطبعة التركية من جماعة الإخوان المسلمين، إلى حزب العدالة والتنمية ذى الخلفية الحضارية والثقافية الإسلامية والمؤمن بعلمانية الدولة ونظامها الجمهورى والديمقراطى.
والحقيقة أن دور النظام السياسى هو خلق عملية سياسية فعالة وقادرة على دمج معظم القوى السياسية فيها، وهذا ما حدث عكسه تماماً فى عهد مبارك، وكان السقوط مدوياً، بعد أن مارس نظامه عملية إقصاء كاملة لكل التيارات السياسية الفاعلة، على رأسها التيار الإسلامى، ولو كان قام بدمج ولو جزئى لهذا التيار وأعطاه فرصة للتفاعل مع نظام سياسى ودولة ودستور وقوانين موجودة وشبه راسخة لكان هذا التيار قد تطور بشكل تدريجى أو على الأقل جانب كبير منه، ولكننا وجدنا تياراً إسلامياً ديمقراطياً ليس هدفه الوحيد الاستحواذ على السلطة وإقصاء الجميع.
والحقيقة أن وصول الإخوان المسلمين على رأس نظام وعملية سياسية، هم الذين وضعوا قواعدها من دستور إلى قانون انتخابات إلى جماعة غير قانونية فوق مؤسسات الدولة ويرفضون تقنين وضعها واحترام قوانينها، هو أمر يختلف جذرياً لو كان هناك نظام أعد مسبقاً، ولو بعد الثورة وأثناء المرحلة الانتقالية وقبل وصول الإخوان أو غيرهم للسلطة هذه القواعد والقوانين، وتلك واحدة من خطايا قيادة المجلس العسكرى الذى سلم البلد «تسليم مفتاح» للإخوان دون أى استحقاقات مطلوبة، مثلما جرى فى كل بلاد التحول الديمقراطى التى وضعت قواعد اللعبة السياسية القانونية والدستورية قبل الدخول فى العملية السياسية والتنافس الانتخابى.
ومن هنا فإن تصوير مشكلة مصر فى الانتخابات النزيهة فقط أمر فى غاية الخطورة ويعكس استخفافاً بعقول الناس، لأن المشكلة أولاً فى النظام السياسى الإقصائى وفى العملية السياسية المهددة ثانياً، والمفارقة أن مَن هم على رأس النظام السياسى الجديد هم أول من عانوا من ويلات الإقصاء، وعادوا ومارسوا ولو جانباً من نفس أساليب الإقصاء القديمة.
إن معضلة مصر أن هناك قوى وتيارات جديدة يموج بها المجتمع وغير قادر النظام السياسى على استيعابها فى العملية السياسية، كما أن الأخير دفع الكثيرين إلى التشكيك فى جدواها وجدوى المشاركة الانتخابية التى يفترض أن تكون نتاجاً لدمج غالبية القوى السياسية فى العملية السياسية.
والحقيقة أن مصر تعانى من فشل كامل للنظام السياسى فى خلق هذه العلاقة التفاعلية بينه وبين القوى المعارضة، وحتى الحوار الرئاسى اتضح حجم فشله وهزاله من ضعف المشاركة، وحتى من شاركوا خرجوا وهم يشعرون بعدم جدوى «الحوار من أجل الحوار».
إن النظام الناجح هو الذى يمتلك المرونة الداخلية ليتطور ويدمج الجديد الذى يتشكل فى المجتمع داخل العملية السياسية، ويكون قادراً بالسياسة وليس بالأمن على أن يقدم رسائل أمل للجميع، لا أن يقف متجمداً ويفسر جموده وعدم انفتاحه بنظرية المؤامرة واتهام المعارضة باتهامات مباركية لا تتغير.
إن النظام الناجح والفاعل هو الذى يكون قادراً على التأثير والتأثر، أى يستجيب لجانب من الأفكار الجديدة، ويغير من أدائه وخطابه، ويؤثر أيضاً فى هذه الأفكار، ويكون قادراً على تغيير كثير من الأفكار المتشددة والثورية والحالمة إلى أفكار واقعية وممارسات قابلة للتحقيق، وهذا لن يتحقق إلا إذا كان النظام معبراً عن روح الشعب المصرى وليس فقط جماعة الإخوان المسلمين، وأن تمتلك العملية السياسية قدرات إدماجية تعطى الأمل للجميع، وليست إقصائية تعطى رسائل إحباط للكثيرين.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"