مصر اليوم
حين تنتقل الجماعة من المعارضة إلى الحكم، وحين يتغير خطابها وتتخلى عن كثير من أدبياتها بعد أن وصلت للسلطة، وتخترع مفردات جديدة لم تستخدمها على مدار 83 عاماً من تاريخها المعارض، نصبح أمام معضلة حقيقية باتت تهدد الجماعة نفسها.
والسؤال الرئيسى: أين الخلل فى أداء الإخوان حالياً بعيداً عن السجال السياسى والأخطاء اليومية التى يرتكبها الجميع؟ وما هى ملامح الإطار التنظيمى والسياسى الذى تتحرك فى ظله، ويدفعها إلى أن ترتكب كثيراً من الأخطاء، وجعل قيادتها غير قادرين على المراجعة أو النقد الذاتى؟
والحقيقة أن جماعة الإخوان حين تأسست عام 1928 قامت على إبداع تنظيمى، وبنت هيكلاً متعدد المستويات من الأخ المساعد (المحب) حتى الأخ العامل والمجاهد، صمد منذ العهد الملكى وحتى العهود الجمهورية رغم المحن والأزمات.
والحقيقة أن تعامل أعضاء الجماعة مع تنظيمهم يختلف عن تعامل باقى أعضاء الأحزاب السياسية، فهو يحمل ولاء مطلقاً وثقة مطلقة فى القيادة، ومعايير الترقى أمام العضو المساعد ليست مفروشة بالورود لكى يصبح عضواً عاملًا، فهناك معايير دينية صارمة تسمح بهذا الترقى، الذى أحياناً ما اخترق لصالح علاقات أهل الثقة وذوى القربى كما يجرى كثيراً فى مصر.
وربما كان وصف سيد قطب للجماعة معبراً وذا دلالة حين قال: «هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة فى بناء الجماعات.. إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس، خاطب الداعية مشاعرهم ووجدانهم، فالتفوا حول عقيدة.. إن عبقرية البناء تبدو فى كل خطوة من خطوات التنظيم.. من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإدارى، إلى الهيئة التأسيسية، إلى مكتب الإرشاد. وفى النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التى تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل فى داخل النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظماً».
كما تحدث الإمام الراحل حسن البنا بدوره عن النهضة- دون أن يذكر أن لها جناحين- أو بالأحرى دعامة النهضة فى كتابه مذكرات الدعوة والداعية وهى «التربية»، حيث قال: يجب أن تربى الأمة أولاً وتربى أساساً على الإيمان، أى يجب أن تدرس منهاج نهضتنا درساً نظرياً وعملياً وروحياً. وأعتبر أن ذلك يستدعى وقتاً طويلًا لأنه منهج دراسة يدرس لأمة، فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والكفاح الطويل.
والحقيقة أن قناعة عضو الإخوان المسلمين بأن مجرد انتمائه للجماعة «جهاد فى سبيل الله»، وأن الحفاظ على هذه الجماعة هو هدف وغاية فى حد ذاته، تحول بعد وصوله إلى السلطة إلى عنصر ضعف، لأنه أصبح عامل انغلاق وعزلة عن باقى أفراد المجتمع.
وإذا كان البعض وصف الجماعة بأن أعضاءها عاشوا فى عزلة شعورية عن المجتمع- كما طالب سابقاً سيد قطب حين تحدث عن الطليعة المؤمنة فى كتابه معالم فى الطريق- إلا أن هذه العزلة كانت تخص أعضاء الجماعة ومناصريها ولم يشعر بها عموم المصريين، أما بعد الوصول للسلطة فقد تحولت الرابطة التنظيمية والتربية الدينية إلى شعور بالتمايز والتفوق على الآخرين، وتحولت الطاقة الدينية التى حافظت على تماسك الجماعة حين كانت فى المعارضة إلى طاقة كراهية وتحريض على المنافسين والخصوم وانغلاق وعزلة عن باقى المجتمع.
فكثيراً ما اشتكى الناس من الحلقة الضيقة التى يحكم من خلالها وزراء الإخوان، فيجتمعون فيما بينهم فى جلسات خاصة يهمس فيها الوزير الإخوانى مع مستشاريه الإخوان كما اعتادوا أن يفعلوا أثناء المعارضة ودون أن يعلم باقى الموظفين شيئاً عما يجرى.
وأى مستمع لتعليقات المستقيلين من مستشارى الرئيس ومن كانوا جزءاً من السلطة الحالية- معظمهم إسلاميون- سيكتشف لأى حد شعروا بالتهميش والغربة والمرارة من الطريقة التى كان يتعامل بها الإخوان مع كل من هو خارج التنظيم.
ولأن عضو الجماعة لديه إيمان عميق «بربانية» دعوته، فاعتبر أن خصومه معادون لهذه الدعوة وليسوا مجرد معارضين، وهو أمر يردد أحياناً فى العلن، وبصورة أكثر فى الجلسات الخاصة. ولذا لا يوجد تفسير لهذه الهمة التى تعمل بها لجان الإخوان الإلكترونية فى تلفيق التهم والأكاذيب بكل سلاسة لخصومهم السياسيين وعدم الاشتباك فى قضية جادة واحدة دون أن تسمع حديث المؤامرة والعمالة، على اعتبار أن المعارضين ليسوا مسلمين كما يجب لأن الإسلام الحق يتحقق بالانتماء للجماعة.
وعلى المستوى الحركى، تبنى البنا مفهوم القوة ورفض الثورة واعتبر الأولى شعار الإسلام فى كل نظمه وتشريعاته، وأن «الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية، حيث لا يجدى غيرها وحيث يثقون فى أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة».
أما الثورة «فلا يفكر فيها الإخوان المسلمون ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها».
إن فلسفة الجماعة الأساسية كانت قائمة على التربية والدعوة، وحين يؤمن غالبية الشعب بدعوة الإخوان فإن المجتمع والدولة سيتغيران دون الحاجة إلى ثورة أو حزب أو انتخابات (لم يؤسس الإخوان طول تاريخهم حزباً سياسياً إلا العام الماضى)، والمعضلة أن مصر تغيرت بطريقة مختلفة عن فكر الإخوان وطريقتهم، وهو ليس عيباً، إنما العيب أن تغير الجماعة جلدها بعد وصولها للسلطة وتصبح ثورية بعد أن كانت محافظة وإصلاحية، ويتحدث الرئيس مرسى لقناة الجزيرة وكأنه زعيم فى حركة الثوريين الاشتراكيين وليس عضواً فى جماعة دينية محافظة سعت للتغيير بغير طريق الثورة وقدمت تضحيات ربما تكون أكبر من فصائل شاركت فى الثورة ولكنها لم تكن فى أى مرحلة من تاريخها جماعة ثورية.
وخطورة أن تكتشف الجماعة «ثوريتها» بعد أن تصل للسلطة، وتبدأ فى استخدام تعبيرات من نوع الثورة المضادة والشرعية الثورية والنيابات الثورية وغيرها، أنها لا تضعنا فقط أمام خطاب غريب عن تراثها وأدبياتها، إنما أيضاً أمام خطر داهم يتعلق بصناعة نظام يكرس الاستبداد باسم الثورة والدين معاً.
من الصعب أن تصحح الجماعة من أوضاعها بعد وصولها للسلطة لأن شكل الصراع السياسى الحالى جعلها تقف تقريباً على قلب رجل واحد فى مواجهة المعارضين «الأشرار»، وأصبحت غير قادرة على إجراء أى فصل بين الجماعة الدينية الدعوية، أى «الإخوان المسلمون»، والحزب الحاكم، فالجماعة بكل صفاتها السابقة يمكن أن تكون جماعة دعوية بامتياز تبث القيم الدينية داخل المجتمع مثل عشرات الجمعيات الأخرى، وليست جماعة توظف رسالتها الدعوية لصالح البقاء فى السلطة، وهنا ستتقاطع حتماً مع تجارب الفشل التى حولت الرسالة الدينية إلى مشاريع للتشبث بالسلطة، مثلما فعلت تجارب اشتراكية وقومية سابقة أعطت لنفسها استثناء باسم السياسة أو الدين.
الإخوان كانوا يرددون قبل الثورة كيف تقارن بين دعوة ربانية وأيديولوجيات دنيوية اشتراكية وليبرالية، والآن اتضح أن غواية السلطة لا تفرق بين متدينين وغير متدينين، فالمصير واحد هو الفشل طالما كان هناك تنظيم يعطى لنفسه حصانة خاصة باسم الدين أو السياسة.
لقد نجح حزب العدالة والتنمية فى كل من تركيا والمغرب، لأنه بنى حزباً سياسياً منفصلاً تنظيمياً عن الجماعة الدعوية رغم وجودها، كما أنه ظل متسقاً بعد وصوله إلى السلطة مع خطابه الإصلاحى الديمقراطى، ولم يرتد أردوجان ثوب الثورى فى مواجهة خصومه، بل على العكس صبر على محاولات كثيرة لإقصاء حزبه من السلطة عبر المحكمة الدستورية، وحافظ على مبادئ الدولة العلمانية، ونجح فى معركته مع الجيش والقضاء لأنها كانت من أجل بسط سلطة الدولة المدنية الديمقراطية على هذه المؤسسات وليس هيمنة حزب أو فصيل.
إن معضلة مصر أن صيغة الإخوان الحالية التى هى مصدر تفوقهم التنظيمى لا تسمح إلا ببث رسائل الهيمنة والسيطرة لدى قطاع واسع من المصريين، فهل سيجرى الإخوان الجراحة الصعبة بفصل الجماعة عن الحزب، وتقديم خطاب سياسى جديد يعمل على بناء دولة مؤسسات ديمقراطية والتوقف عن خطاب المعارض لمن هم فى السلطة؟ لا نتوقع ذلك لأن الإخوان فى مصر- على خلاف تركيا والمغرب، حيث يوجد هناك دستور ومؤسسات وسلطة قوية- وصلوا للسلطة فى ظل «لا نظام» ولا دستور وبقايا دولة، فوضعوا دستورهم، ويحاولون الآن تشكيل هذه الدولة على مقاسهم مثلما فعلوا فى السودان واستمروا فى حكم دولة فاشلة، أما مصر فلا أعتقد أنهم يفكرون أصلاً فى مراجعة أى شىء، ولذا لن ينجحوا.