مصر اليوم
حين كتبت فى إبريل 2012 مقال «الدولة العميقة»، بكل ما أثاره من جدل وردود أفعال، اعتبر البعض أن السلاسة التى أقيل بها «طنطاوى» دليل على وجود «الدولة العبيطة» وليس «العميقة» كما سبق أن وصفناها.
ودارت الأيام، وثبت للكثيرين أن هذه الدولة موجودة ومؤثرة فى الشأن العام، وبفضلها نجح الشعب فى تحقيق أهداف انتفاضة 30 يونيو بإقصاء حكم الإخوان.
والحقيقة أن الدولة العميقة فى صورتها المصرية تتمثل أساساً فى المؤسسة العسكرية والشرطة والقضاء والخارجية والإعلام، وجزء من الجهاز الإدارى للدولة، الذى يبلغ تعداده أكثر من 6 ملايين عامل وموظف.
والمؤكد أن هذه الدولة كانت مهددة بعد ثورة 25 يناير التى زلزلت كيانها لكنها لم تستطع أن تقدم قيادة سياسية قادرة على إصلاحها وليس الانتقام منها أو تفكيكها، فقد حلم بعض الثوار بتفكيكها دون أن يقدموا بديلاً سياسياً ومؤسسياً قادراً على تغييرها، وسعى إخوان الحكم إلى الانتقام منها بعد وصولهم للسلطة وفشلوا فشلاً ذريعاً.
وقد كتبنا فى مقال الدولة العميقة: «إن خبرات النجاح فى العالم تقول لنا إن أى قوة أو جماعة راديكالية تأتى من خارج المنظومة السياسية السائدة لابد أن تتبنى خطاباً مطمئناً وإصلاحياً لهذه الدولة العميقة، ولا تبدو أنها ستسيطر أو ستحتكر الحياة السياسية، وأنها ستكتب الدستور والقوانين الأساسية، وتهيمن على جهاز الدولة»، وقد فعل الإخوان عكس ذلك، ودخلوا فى مواجهات هدفها ليس إصلاح الدولة إنما السيطرة عليها والتحكم فيها لصالح أجندة الجماعة لا الوطن.
والمؤكد أن «الدولة العميقة» فى مصر ليست دولة أيديولوجية، فلا يمكن وصف الجيش المصرى مثل نظيره التركى بأنه حامى العلمانية، فهو جيش يشبه المجتمع فى محافظته وتدينه وأيضاً مدنيته، كما لم تعرف بيروقراطية هذه الدولة حتى فى عهد عبدالناصر أى توجهات عقائدية حين ساد الخطاب الاشتراكى وظهر تنظيم طليعة الاشتراكيين الذى اخترق بعض مؤسسات الدولة، فقد نجحت الأخيرة فى تحويل كثير من مفردات الخطاب الاشتراكى التحررى إلى خطاب بيروقراطى هادئ مفصل على مقاسها وتوجهاتها.
إن «الدولة العميقة» منذ العهد الملكى والعهود الجمهورية لم تكن عقائدية إنما فيها من الوسطية المصرية الكثير، ولذا لم تنجح أى محاولة لصبغها بأيديولوجيا محددة، وتكرر الأمر مع الإخوان المسلمين، فرغم تدين الشعب المصرى ومعه مؤسسات الدولة إلا أنها لم تكن على استعداد لأن تقبل مشروعاً عقائدياً إخوانياً شمر سواعده ليعلن عن قرب لحظة التمكين ففشل فى إدارة الدولة وليس فقط إصلاحها.
إن ما سبق أن سميناه من قبل «الدمج الآمن» للإخوان يستلزم الوصول المتدرج للسلطة ولا يعنى قلب المعادلات السياسية والقانونية بجرة قلم، وحين فعل الإخوان العكس تضامن الشعب مع الدولة العميقة فى مشهد ملحمى نادر لا يتكرر إلا فى مواجهة الغزوات الخارجية، ونجحوا معاً ويداً واحدة فى إسقاط حكم الإخوان.
لن ينجح أى تيار سياسى جديد قادم من خارج المشهد الذى اعتادت عليه «الدولة العميقة» منذ عقود إلا إذا طمأن هذه الدولة، واعتبر أن إصلاحها أحد أهدافه ولكن بشكل متدرج غير انتقامى وغير إقصائى.
عندها فقط يمكن أن نحقق الديمقراطية التى ستعنى أيضاً إعادة بناء «الدولة العميقة» على أسس جديدة شفافة وديمقراطية، وهذا هو تحدى المرحلة القادمة، فالمطلوب ليس هدم الدولة ولا الانتقام منها إنما إصلاحها وتطوير أدائها الذى سيعنى فى حال حدوثه انتقال مصر إلى مصاف الدول الديمقراطية المتقدمة.
amr.elshobaki@gmail.com