عمرو الشوبكي
مؤسف ما يجرى فى مصر الآن من تخوين كل رأى مخالف فى التعامل مع الأحداث وفى قراءة المستقبل، وصادم أن يساوى البعض بين آراء واجتهادات سياسية مخالفة وبين ممارسات ودعاوى أخرى يمكن وصفها بالخيانة فمن يدعو لانقسام الجيش أو خلخلته، ومن يحرض الغرب والولايات المتحدة على التدخل مباشرة فى مصر، ومن يرى هدم الدولة طريقه للعودة للسلطة، ومن يتآمر ولو بالتحريض على قتل الجنود ورجال الأمن ويروع الأهالى والآمنين، كل هؤلاء يخونون شعبهم ووطنهم، أما من يرى أن المسار السياسى محفوف بالمخاطر، ويرى أن هناك تدخلا أكثر من اللازم للجيش فى العملية السياسية (ما سماه البعض عسكرة الحياة المدنية)، وأن هناك انتهاكات ترتكب من قبل الدولة والنظام الحالى يجب وقفها، ومحاسبة المسؤولين عنها دون إنكار لجرائم الطرف الإخوانى بحمله السلاح وحرقه الكنائس وترويعه الآمنين إن هؤلاء يحملون رأيا علينا أن نحترمه حتى لو اختلفنا معه، وهو فى النهاية أكثر احتراما من هؤلاء الذين كانوا مدعى ثورية ويهتفون صباحا ومساء «بسقوط حكم العسكر»، وغيروا ثوبهم وتحدثوا كأنهم مسؤولون سابقون فى أجهزة الأمن حين تصوروا أن هذا هو الطريق لاقتسام كعكة السلطة ولعل البداية كانت مع موقف د. البرادعى الصادم بالاستقالة فى هذا التوقيت من منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وهو موقف قد يقضى على مستقبله السياسى، أو بالأحرى يضعه فى مصاف رجل الضمير أو الرسالة الثورية الذى لا علاقة له بإدارة وحكم الدول، ومع ذلك فإن الرجل كثيرا ما اتخذ مواقف سابقة، واكتشفنا بعد فترة ليست طويلة أنه كان على صواب، وسواء تكرر هذا الأمر واكتشفنا صحة موقفه من عدمها فإن من حقه أن يتخذ ما يراه مناسبا على ضوء قناعاته الضميرية والسياسية، ولا يجب تخوينه لأن مصير بلد بحجم مصر لا يتوقف على استقالة شخص، والتصور الساذج أن الغرب سيصعد من موقفه ضد مصر بسبب غياب البرادعى أمر لا أساس له من الصحة ومازلت أذكر حين اندلعت حرب الخليج الثانية عام 1991، وكنت لاأزال طالبا فى فرنسا، وقبل الحرب بقليل استقال وزير الدفاع الفرنسى «دومينيك شوفينمه»، رافضا الحرب على العراق ولو لتحرير الكويت، لم يخوّنه أحد رغم أنه وزير دفاع، واعتبر أن هذا ما يمليه عليه ضميره الأخلاقى والسياسى صحيح أن مصر لا تعيش فى ظل ديمقراطية مستقرة، وأنها الآن تخوض حربا ضد الإرهاب، وأن كيان الدولة نفسه مهدد، وبالتالى الناس لن تتسامح مع من خذلوها ــ وهذا صحيح ــ لكن لا يجب أن نقبل بتخوينهم إذا كان موقفهم نابعا من قناعتهم الموقف الثانى هو بيان صدر حمل عنوان استكمال الثورة، وينتمى لمدرسة فكرية وسياسية أختلف معها، وجاء البيان متضمنا بعض النقاط الصادمة مثل إجراء انتخابات قبل وضع الدستور، والدفاع الواضح عن الإخوان المسلمين، كأنهم لم يكونوا فى الحكم وهم المسؤولون بشكل أساسى (باعتبارهم أول حكم مدنى منتخب) عن إهدار فرصة التحول الديمقراطى. صحيح أنه كما جاء فى البيان لا يجب شيطنة أى فصيل سياسى والقيام بمعاقبة جماعية لكل أعضائه إلا أن هذا لا ينفى أنهم مسؤولون أكثر من غيرهم عما يجرى فى مصر الآن تغيرت لغة البيان، وهو أمر مهم، فحالة العداء، الذى تعامل به بعض هذه المجموعات مع «العسكر»، انتقلت إلى حديث عن الجيش والمؤسسة العسكرية التى يجب أن تختفى من المشهد السياسى، وهو تحول شكلى، لكنه يعكس تطورا فى المضمون بأن إبعاد هذه المؤسسة عن الشأن السياسى لن يكون بشتمها إنما ببناء بديل مدنى ديمقراطى قوى سيستند على وجود تيار واسع فى مصر، ناضل وسيناضل من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة ومع ذلك فإن الواقع يقول إنه بفضل غالبية الشعب المصرى وقوة المؤسسة العسكرية سقط حكم جماعة الإخوان التى تدار بطريقة شبه عسكرية (من ناحية الالتزام بالأوامر وطاعة القيادة وليس التسليح) وكان الطرف الأضعف فى المعادلة السياسية المصرية هو التيارات المدنية والتنظيمات الثورية والسؤال المطروح: كيف نصل إلى هذه الدولة المدنية الديمقراطية؟ هل عبر فعل ثورى منظم (الثورة مستمرة) أم عمل إصلاح متدرج؟.. هذا البيان ينحاز للأول المتسق مع قناعاته الفكرية التى لم يغيرها تبعا لمكاسبه السياسية، ومن ناحيتى أنحاز للثانى المتسق مع قناعاتى التى قلتها قبل الثورة وبعدها أما الموقف الثالث الذى أثار اعتراضات الكثيرين فقد جاء فى بيان من 9 منظمات حقوقية، على رأسها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذى يعد توقيعه على أى بيان حقوقى دليل جدية ومهنية، هذا البيان الذى تم تخوين أصحابه، رغم أن فيه نقاطا أرفضها تماما، وأخرى أتحفظ عليها، وثالثة أوافق عليها فقد أدانت هذه المنظمات ما سمته الاستخدام المفرط للقوة من جانب السلطات الأمنية فى فض اعتصام جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها برابعة العدوية وميدان النهضة، مؤكدة أن التجمع غير السلمى لا يبيح العقاب الجماعى وقالت إنه كان بإمكان أجهزة الأمن تجنب هذه المأساة الإنسانية لو أنها اتبعت القواعد والمعايير الدولية فى فض التجمعات، فضلاً عن تقاعس سلطات الأمن، طوال الأسابيع الماضية، عن القيام بواجبها فى اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لحماية الأمن العام والمواطنين، خاصة سكان المنطقتين وروادهما وأكدت أن ذلك أدى إلى تمرير الأسلحة والذخائر ومواد المتاريس إلى مواقع الاعتصامين، وتفشى ممارسات القتل والتعذيب، والاعتداء البدنى على الصحفيين دون أى شكل من المحاسبة، وارتكاب بعض المشاركين فى الاعتصام وقياداتهم أعمالا إجرامية، وحمل بعضهم السلاح وممارسة العنف وإذا كان صحيحا من حيث المبدأ أن الاعتصام غير السلمى لا يبرر القيام بالعقاب الجماعى، إلا أن الخلاف هو هل ما فعلته قوات الأمن هو عقاب جماعى أم رد فعل على تعرضها للهجوم والقتل؟ وهل شهد العالم الديمقراطى فى أى اعتصام سلمى أو غير سلمى حملا للسلاح بهذه الكثافة حتى نستطيع أن نقيس عليه ونتحدث عن المعايير الدولية؟ أم أن ما جرى ـ كما أعتقد ـ هو أقرب لقيام إرهابيين بخطف رهائن والاختفاء خلفهم، وقامت القوات الخاصة بالهجوم عليهم بكل ما يحمله ذلك من مخاطر ومن أخطاء وقعت؟ إن القضية ليست فى الاتفاق والاختلاف مع المقولات الحقوقية، إنما بتخوين الآراء المختلفة، فالصوت الحقوقى ظل مسموعا ولو خافتا فى أمريكا بعد 11 سبتمبر، رغم أن كل الإجراءات الاستثنائية التى اتخذتها، بما فيها غزو دول كأفغانستان والعراق، كان لها ظهير شعبى واسع، ومع ذلك لم يختف صوت الضمير الحقوقى علينا ألا نخون تيارات كثيرة ليبرالية وإسلامية ويسارية وحقوقية تتحفظ على ما يجرى الآن فى مصر، وهذا من حقها، فالبعض يرى ضرورة أن يجرى حوار سياسى من الآن مع عناصر الإخوان التى لم تحمل السلاح ولم تحرض على العنف، والبعض الآخر ينظر للأمور من منظور حقوقى فيعترض على انتهاك هنا أو خطأ هناك دون النظر إلى السياق السياسى الأشمل كثير من المخالفين للخطاب السائد حاليا أكثر أمانة مع أنفسهم من بعض المؤيدين والمتاجرين بالثورة ودماء الشباب، فطالما لم يكونوا فى صف من طالب بتدويل أزمة مصر الداخلية، ولم يعملوا على إشعال حرب أهلية وفتح فرع للجيش الحر فى مصر، ولم يدعوا جنود الجيش وضباطه للتمرد على قادتهم خدمه لإسرائيل ومندوبيها، فإن من حقهم أن يقولوا ما يشاءون، وأن نجرى حوارا سياسيا محترما عن كيفية إخراج هذا البلد من أزمته الكبيرة.