عمرو الشوبكي
إحدى معضلات مصر الرئيسية أنها لم تقم بثورة كاملة دفعت ثمنها الباهظ كما تقول كتب التاريخ فأسقطت الدولة وهدمت المؤسسات القديمة على أمل بناء أخرى جديدة ثورية، ولم تقم بإصلاح كامل تحتاجه الدولة ويتمناه الشعب، وبقى الوضع على ما هو عليه، وربما أسوأ مما كان قبل الثورة.
وظل الحلم الثورى لدى البعض فى إطار الشعارات والعالم الافتراضى وتصفية الحسابات السياسية ولم يترجم فى مشروع إصلاحى على أرض الواقع تقدم به المجتمع وأصلحت من خلاله مؤسسات الدولة، كما حدث بالنسبة لدول النجاح، فبقينا محلك سر غير قادرين على التقدم ولو نصف خطوة للأمام.
البعض يتصور أن الشعارات الثورية هى التى تحقق أهداف الثورة، بصرف النظر عن قدرتها على التفاعل مع الواقع والتأثير فيه، والحقيقة أن أى ثورة تحقق أهدافها بمشروع إصلاحى يبدأ بتقديم بديل سياسى لما هو قائم، وإصلاح المؤسسات القائمة جراحيا وليس بالمسكنات.
هل سمع أحد فى معظم تجارب التغيير الناجحة عن تعبيرات من نوع التطهير والمحاكم الثورية، وغيرها من المفردات التى استخدمها الإخوان المسلمون وهم فى الحكم وفى المعارضة؟ الإجابة ستكون بلا، رغم أن تجارب الاستبداد استخدمت هذه المفردات سواء فى الثورة الشيوعية فى روسيا 1917 أو فى تجارب الاستبداد العربية فى طبعتها القذافية أو البعثية أو الماركسية (فى اليمن الجنوبى حول الحزب الاشتراكى الصراع الطبقى إلى صراع قبلى سقط فيه عشرات الآلاف من الضحايا)، فهى كلها تجارب قمعت شعوبها وسجنت وقتلت خصومها السياسيين تحت حجة حماية الثورة والشرعية الثورية.
ولذا لم يكن غريبا أن يعرف العالم فى النصف قرن الأخير خبرات ومفردات جديدة من نوع العدالة الانتقالية بديلا عن المحاكم الثورية، والنظم الديمقراطية ودولة القانون والإصلاح المؤسسى بديلا عن إسقاط الدولة والثورة الدائمة.
صحيح هناك بعض التجارب التى سعى فيها كثير من الثوار إلى بناء مجتمع ثورى، وهناك كثير من المفكرين والمصلحين الذين حاولوا بناء مجتمع مثالى عبر الدعوة والأفكار الجديدة، وفى كلتا الحالتين لم يعرف العالم مجتمعا ثورياً أو مثالياً، رغم وجود الأفكار الثورية والإصلاحية على السواء.
والمؤكد أن هناك قلة تحلم بوجود مجتمع ثورى فى مصر، وتتصور أنه بعد تطهير البلاد من كل رموز النظام الأسبق ومن الإخوان المسلمين وربما كل الإسلاميين، وإبدال الحكومة الحالية بأخرى ثورية، فإن هذا سيعنى ميلاد مصر الجديدة الثورية الخالية من العيوب والشوائب.
والحقيقة أن هذا المجتمع لم يوجد فى أى تجربة إنسانية، صحيح أن هناك مجتمعات متقدمة وأخرى نامية، ومجتمعات ديمقراطية وأخرى ليست كذلك، وهناك مجتمعات ثرية وأخرى فقيرة، لكن لا يوجد مجتمع واحد فى حالة ثورة دائمة أو مجتمع واحد مثالى عرفته البشرية.
وقد عرفت العالم تجربتين ثوريتين بشرتا بهذا المجتمع الأولى فى أوائل القرن الماضى، حين نجح البلاشفة فى 1917 فى الوثوب للسلطة فى روسيا القيصرية وقاموا بإسقاط النظام والدولة من أجل بناء المجتمع الاشتراكى الثورى النقى، فانقسم الجيش إلى جيش أحمر وأبيض، وسقط مئات الآلاف من القتلى وسيطر فى النهاية الحزب الشيوعى على السلطة، وأعاد بناء الدولة على أسس جديدة بشرت على الورق بالمجتمع المثالى الاشتراكى وعلى الأرض بنت المجتمع البيروقراطى الذى لم يخل من إنجازات إلا إنه فى النهاية لم يكن مثاليا ولا ثوريا.
أما التجربة الثانية فهى تجربة الثورة الإيرانية العظيمة فى 1979 وشارك فيها 6 ملايين مواطن من أصل حوالى 30 ملايين كان هو عدد سكان إيران فى ذلك الوقت، وهى أعلى نسبة مشاركة فى أى ثورة فى تاريخ الإنسانية (ما يقرب من ربع عدد السكان)، وسقط فيها 70 ألف شهيد، وامتلكت قيادة تاريخية مثل الإمام الراحل الخمينى قادت الفعل الثورى منذ عام 1963، ولديه مشروع أيديولوجى متكامل الأركان ومحدد الأهداف، ومع ذلك لم تنجح فى بناء المجتمع الثورى الإسلامى النقى الذى بشرت به، إنما مجتمع فيه جوانب إيجابية لا تخلو من سلبيات كثيرة أيضا.
نعم كان فى مصر فعل ثورى عظيم وملهم استمر 18 يوما وسقط فيه 700 شهيد، ولم يقدم قيادة أو مشروعاً سياسياً متوافقاً عليه من معظم المشاركين فى الثورة، وبعد سقوط مبارك دخلت البلاد فى مستنقع الفشل المتتالى، ورحلة الاتهامات بين الثوريين والإصلاحيين، فلا الثوار نجحوا فى ثورتهم المستمرة ولا الإصلاحيون أصلحوا أى شىء حتى يدفعوا معظم الثوار إلى الإيمان بالإصلاح التدريجى كطريق للتغيير والبناء.
إن البحث عن مجتمع ثورى تصنعه أيديولوجية معينة لا وجود له على أرض الواقع ولا تدعمه خبرة إنسانية واحدة، فكل التجارب الإنسانية التى حاولت أن تهندس المجتمع والناس وفق عقيدة سياسية فشلت فشلاً ذريعاً، وكل تجربة حاولت أن تستلهم من هذه العقيدة قيماً وأفكاراً تقدمها للناس ليختاروا منها ما يشاءون عبر دولة قانون (لا دولة ثورية) وإصلاحات سياسية وديمقراطية.
معضلة مصر أنه يوجد فيها قليل من الثوار الذين دفعوا أثماناً باهظة وامتلكوا تاريخاً نضالياً ملهماً، فنفهم أسباب الحصانة الثورية التى يمنحونها لأنفسهم، وأيضاً قليل من الإصلاحيين المدربين الذين بنوا أحزابا سياسية منظمة قادرة على مواجهه الواقع، ومؤسسات مهنية تفرز كوادر قادرين على إصلاح الدولة المترهلة، فبقينا أسرى شعارات ثورية تخون الإصلاحيين، وعجز الإصلاحيين عن الاستفادة من طاقة الثوريين بخطاب استعلائى يراهم «شوية مراهقين» فبقينا محلك سر لا نتقدم ولو نصف خطوة للأمام.
لم يفهم الثوار قواعد اللعبة السياسية وآليات التغيير بعيداً عن الشعارات الحماسية والأحلام الوردية، ولا الإصلاحيون شعروا أنهم بحاجة إلى أن يصبحوا ثوريين فى رؤيتهم للإصلاح كما قال الإسبان لى مرة بعد 25 يناير إننا صحيح لم نغير بلدنا عن طريق الثورة، لكننا قمنا بإصلاحات ثورية. وهذا ما تحتاجه مصر: نعم إصلاحات ثورية.
نقلاً عن "المصري اليوم"