عمرو الشوبكي
تجربة جماعة الإخوان المسلمين ممتدة منذ 85 عاماً، وتعثرها المتتالى هو جزء من أزمة الجماعة والنظم السياسية معاً، هكذا كانت تحليلاتنا حين تعلَّق الأمر بقراءة أسباب الفشل فى دمج الإخوان فى الحياة السياسية، وحمَّلنا النظم السابقة- وخاصة نظام مبارك- مسؤولية كبرى فى هذا الفشل.
وبعد وصول الإخوان للسلطة اتضحت مسؤوليتهم الكبرى فى الفشل، وأعيد طرح موضوع الإسلام السياسى مرة أخرى على البحث، وطُرح السؤال مرة أخرى: هل هذا التيار قابل للدمج فى الحياة السياسية؟ وهل الأسباب التى تحول دون دمجه تعود أساساً إلى السياق الاجتماعى والسياسى المحيط أم إلى بنية هذه التيارات العقائدية والتنظيمية والتى تحول- لأسباب هيكلية- دون دمجها وخاصة الإخوان فى العملية السياسية والديمقراطية؟
والحقيقة أن ما كتبته على مدار عشرين عاماً (الدراسة الأولى فى التقرير الاستراتيجى العربى الصادر عن مركز دراسات الأهرام فى 1994 حملت عنوان: الحركة الإسلامية بين صعوبة الدمج واستحالة الاستئصال، وإسلاميون وديمقراطى، وأزمة الإخوان المسلمين، ومستقبل الإخوان المسلمين) كان فى اتجاه ضرورة إحداث «دمج آمن» للتيارات الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان، ووضعت مجموعة من الشروط لنجاح هذا «الدمج الآمن» الذى غاب طوال المرحلة الانتقالية، فكان وصول الإخوان للسلطة دون الالتزام بهذه الشروط يعنى فشلاً مؤكداً فى تجربة الإخوان، خاصة بعد أن سارت الجماعة عكس كل مسارات النجاح فى العالم كله وتعاملت مع السلطة باعتبارها مغنماً، فكان السقوط مدوياً.
والحقيقة أن فلسفة الدمج الآمن تقوم على الاعتراف بأن التيارات الإسلامية، وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، لديها مشكلة فى بنيتها الأيديولوجية، فهى ليست مجرد حزب سياسى راديكالى أو ثورى يتم استيعابه فى العملية الديمقراطية، كما جرى مع أحزاب يسارية وشيوعية، إنما هى جماعة تقوم على السمع والطاعة ولديها بنية تنظيمية خاصة لا تسمح لأى شخص بأن يكون عضواً بها إلا بعد التزامه ببرامج التربية العقائدية المتدرجة داخل الجماعة، وتنقله من عضو محب أو أخ منتسب إلى عضو عامل منتظم وملتزم بالسمع والطاعة (يُقدَّرون بما يقرب من مائة ألف عضو عامل).
والحقيقة أن قناعة عضو الإخوان المسلمين بأن مجرد انتمائه للجماعة «جهاد فى سبيل الله»، وأن الحفاظ على هذه الجماعة هو هدف وغاية فى حد ذاته، تحولت بعد وصوله للسلطة إلى عنصر ضعف، لأنها أصبحت عامل انغلاق وعُزلة عن باقى أفراد المجتمع، وتحولت فى فترة قليلة إلى عامل رئيسى فى كراهية الناس لهذا التنظيم الذى يحرص على مصلحة الجماعة لا الوطن، وتحولت الرابطة التنظيمية والتربية الدينية لدى الجماعة إلى شعور بالتمايز والتفوق على الآخرين، يقذف الجميع بطاقة كراهية وتحريض على المنافسين والخصوم وانغلاق وعُزلة عن باقى المجتمع.
فكرة الدمج الآمن تقوم على ضرورة وجود نظام سياسى قوى وكفء، ومؤسسات دولة قوية تفرض شروطها على هذا التنظيم وتفكك بنيته الداخلية تدريجياً حتى يصبح دخوله فى العملية السياسية وفق شروط مسبقة موضوعة سلفاً وليس وفق شروطه هو.
والحقيقة أن ما جرى فى مصر هو عكس هذه الرؤية تماماً، فقد حدثت ثورة 25 يناير وتلاقت قوتان على إفشالها، ولو دون أن تدرى، وهما: القوى الثورية والمجلس العسكرى، فى حين أن القوة الثالثة- وهى الإخوان المسلمون- ظلت قابعة خلف الستار منتظرة الفرصة لكى تنقض على السلطة وفق شروطها وليس شروط الدولة المدنية الديمقراطية.
والحقيقة أن نجاح تجربة تركيا، بصرف النظر عن تعثر أردوجان الأخير، (قد يكون البديل التيار الإصلاحى داخل حزبه الذى يمثله الرئيس عبدالله جول) يعود إلى أن حزب العدالة والتنمية وصل للسلطة وفق القواعد الدستورية والقانونية للجمهورية التركية، واحترمها والتزم بها، ويعلن كل يوم إيمانه بجمهورية أتاتورك، ولم يقل عنها مثلما قال مرسى عن مؤسس الجمهورية المصرية جمال عبدالناصر (الستينيات وما أدراك ما الستينيات؟!)، نفس الأمر ينسحب على المغرب التى مثلت السلطة الملكية على عدم ديمقراطيتها الكاملة حائط صد دستورياً وقانونياً ومجتمعياً أمام حزب العدالة والتنمية الحاكم والمنتمى للتيار الإسلامى، وجعلته جزءاً من حالة سياسية مستقرة ونظام سياسى لدولة عريقة.
نجحت تركيا والمغرب وفشلت مصر فى تجربة الدمج الآمن للإخوان، لأن ما جرى بعد 25 يناير كان عبارة عن مشروع تفكيك متتالٍ لكل ما له علاقة بالدولة المصرية، فتم إسقاط دستور 71 بسبب ضغط الائتلافات المدنية وضعف قادة المجلس العسكرى، وتم إسقاط حجر الأساس الأول أمام إحداث دمج آمن للتيار الإسلامى بإجبارهم على الالتزام بدستور «71 معدَّل» كتبه فقهاء القانون الدستورى المدنى، أو وضع دستور جديد، فوصلوا للسلطة والبلد بلا دستور ولا قوانين عادلة ومتوافق عليها تنظم الحياة السياسية.
لقد وضع الإخوان دستوراً على مقاس الجماعة، وهدموا بالضربة القاضية الشرط الأساسى لنجاح عملية الدمج الآمن لهم فى العملية السياسية بأن يكون قدومهم للسلطة على قواعد معدَّة سلفاً، فوضعوا هم القواعد الدستورية الجديدة وفصَّلوها على مقاس الجماعة السرية، وهم متصورون أنهم اقتربوا من مرحلة التمكين، اللبنة الأولى على طريق سقوطهم المدوى.
والصادم أن جماعة الإخوان المسلمين حين عادت للساحة السياسية ونشرت مقارها فى محافظات مصر ومدنها، ذكَّرت الناس بثقافة الحزب الواحد، ولم تجد سلطة تجبرها على تقنين وضعها القانونى، ولم تقم الأجهزة الرقابية بمراقبة أموالها والتفتيش المالى والإدارى على مقارها، حتى تحولت الجماعة إلى تنظيم فوق الدولة وفوق القانون، والدمج الآمن يقول إنه يجب أن تكون تحت الدولة وتحت طائلة القانون.
القانون لا يسمح لجماعة دينية بأن تمارس العمل السياسى، والسلطة الانتقالية قبلت أن تكون هذه الجماعة غير قانونية وسرية، وأيضاً ذات أذرع سياسية، فرأينا مندوب الجماعة فى مؤسسة الرئاسة فى مشهد غير مسبوق فى تاريخ أى بلد آخر فى العالم، أى أن يأتى رئيس جمهورية من جماعة سرية لا علاقة لها بقوانين الدولة التى يحكمها، وأسست جماعة الإخوان حزبها السياسى وظلت تهيمن على توجهاته وترسم له تحركاته باعتباره الذراع السياسية للجماعة، فهل سمع أحد فى الدنيا عن جماعة دينية لها ذراع أو أرجل أو أصابع سياسية إلا مع الإخوان؟!
البعض يرى أنه لو نفذنا شروط الدمج الآمن بوضع الدستور أولاً، ووضع قواعد قانونية صارمة تلتزم بها الجماعة، فإن هذا لا يعنى التزامها بهذه الشروط لأنها متآمرة بحكم بنيتها الداخلية وتكره الدولة والمجتمع.
والحقيقة أن الرؤيتين ستظلان مطروحتين على الساحتين الفكرية والسياسية، وأن نجاح أى مجتمع يكمن فى قدرته على دمج جماعاته الدينية كجماعة دينية سلمية فى المجال العام، وقواه السياسية كأحزاب مدنية تؤمن بالعملية الديمقراطية.
ولذا فإن اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية يعنى أننا فشلنا فى تفكيك هذه الجماعة ودمجها فى العملية السياسية كحزب سياسى مدنى منفصل عن الجماعة، فحين تجد جزءاً من مجتمعك يتحول إلى إرهابيين أو جماعة إرهابية لا يجب أن نعتبره نصراً، لأن النصر الحقيقى هو فى وجود نظام سياسى وآلية قانونية ومجتمعية تحول دون تحول هؤلاء إلى إرهابيين، وإذا تحولوا (الله غالب) فيجب أن تحول دون وجود أى ظهير شعبى لهم.
والمؤكد أننا فشلنا حتى هذه اللحظة فى بناء تيار إسلامى مدنى ديمقراطى، والمسؤولية الأولى تتحمَّلها جماعة الإخوان المسلمين.
نقلاً عن "المصري اليوم"