عمرو الشوبكي
قد تكون هى المرة الأولى التى أذهب فيها إلى كل هذا العدد من المحافظات فى مساحة زمنية قصيرة للحديث عن الدستور بمنطق «اعرف دستورك»، والتصويت له عن قناعة وليس بمنطق أنه أفضل دستور فى العالم، كما فعل غيرنا، فالبداية كانت بدعوة من د. أنور زكى، نقيب أطباء الأسنان فى طنطا، منذ حوالى ثلاثة أسابيع، وتلتها زيارتان إلى بنى سويف، ثم زيارة إلى تلا بالمنوفية، ثم إلى الإسماعيلية، ثم إلى قرية سبرباى الملاصقة لمدينة طنطا بدعوة من صديقنا حسام الأشنيهى، ثم إلى مدينة فارسكور بمحافظة دمياط بدعوة من جمعية الوعى، ثم كفرالشيخ، فالإسكندرية بدعوة من جمعية رجال الأعمال، واليوم (إن شاء الله) فى الزقازيق، وغداً فى الدقهلية، ثم أسوان، وبعدها نستفتى على الوثيقة الدستورية.
لا أدَّعى أننى أعرف كل شىء عن هذه المحافظات، ولا أقول أيضاً إننى بعيد عنها، فكلها ذهبت إليها فى مناسبات ومؤتمرات عديدة على فترات متباعدة، وحاضرت فى جامعاتها وبين طلابها قبل أن يحوِّل الإخوان كثيراً منها إلى ساحة حرب لا محراب للعلم.
والحقيقة أن المتكرر فى كل هذه المؤتمرات هو هذا الشعور الفياض الذى يبديه الناس لدعم «الجيش والشرطة» والهتاف لهم أكثر من أى حزب أو زعيم سياسى، وهو أمر غير معتاد فى الحياة السياسية فى أى دولة أخرى فى العالم إلا ربما فى وقت المحن الكبرى والغزوات الخارجية.
أما الفريق السيسى فقد كان هو الحاضر فى هتافات عشرات الآلاف من المواطنين فى كل المدن التى زرتها، حيث هتف آلاف الفلاحين فى مؤتمر نظمته الجمعيات التعاونية فى قاعة المؤتمرات بالقاهرة لصالح ترشحه، وهو ما دفع رئيس لجنة الخمسين والمرشح الرئاسى السابق عمرو موسى لأن يقول لهم: «عليكم لكى تطبقوا مواد هذا الدستور أن تنتخبوا برلماناً تثقون فيه، والرئيس الذى تهتفون باسمه».
وفى تلا بالمنوفية كان الحضور ينتمى فى أغلبه لجمهور المعارضة، وحملوا معهم الوثيقة الدستورية وطرحوا أسئلة فى غاية الأهمية، وأيضاً لم تنقطع هتافاتهم للجيش والشرطة والفريق السيسى، وتكرر الأمر نفسه فى مؤتمر الغرف التجارية بالإسكندرية، حيث شارك فيه حوالى ألفى مواطن، وكان التوجه العام هو البحث عن بديل من خارج النخبة السياسية والحزبية التقليدية والهتاف له.
مصر الحقيقية، كما يفضل هانى رسلان أن يقول (بدلاً من مصر العميقة)، فيها كثير من القوى التقليدية وفيها دعم للجيش والفريق السيسى أكبر مما يتصور «مناضلو الفيس بوك»، وفيها وطنية مصرية صادقة وتلقائية يمكن أن توظف فى اتجاه البناء والتنمية والإصلاح، ويمكن أيضاً أن توظف فى اتجاه الحفاظ على البنى التقليدية وشبكات المصالح القديمة مع بعض التحسينات.
والمؤكد أن أهم رسالة فى 30 يونيو هى أن مصر ليست فقط 25 يناير ولا 30 يونيو ولا فقط الإخوان المسلمين، ولا ثوار بعد الثورة، ولا النظام القديم، وأنها كل هؤلاء، فمنهم من لا يحب الثورة وهو مواطن مصرى كامل الأهلية، ومنهم أيضاً من يؤمن بالثورة وشارك فيها وليس عميلاً ولا صاحب أجندة خاصة، ومنهم من لم يتزحزح بعد من حزب الكنبة.
إن أهم رسالة قدمتها لجنة الخمسين للشعب المصرى تقول إنه رغم الخلافات الفكرية والسياسية بين أعضائها ورغم اللحظات الصعبة التى مرت بها إلا أنها توافقت فى النهاية ولم ينسحب منها أحد، رغم أنها ضمت ممثلين عن حزب النور والتيارات المدنية وممثلين للأزهر والكنيسة واتحادات الصناعات والعمال والفلاحين.
لقد نجح التوافق بين أعضاء لجنة الخمسين لأنه لا يوجد بها أحد ينتمى لجماعة سرية، ولم يخطط لمشروع التمكين من الدولة والانتقام منها، وبالتالى حدث التوافق وخرجت الوثيقة الدستورية.
والحقيقة أن ما شهدته المحافظات ليس بعيداً عما جرى داخل لجنة الخمسين، فهو نوع من الإيمان الفطرى بالمسار الحالى وبالدولة الوطنية والجيش، وليس شيكاً على بياض كما يتصور البعض، فهو رد فعل على تحديات فرضت على غالبية الناس العودة للدولة للتحصن بها بعد عام من حكم الإخوان، وبعد عام من التآمر على الدولة والشعب، من أجل تمكين الجماعة من حكم مصر.
فالهتاف فى الدلتا والقناة والصعيد والإسكندرية للدولة المصرية يعنى أن هناك نوعاً من التهديدات أخرج من الناس ولاءاتهم الأولى والتلقائية، ولكنه لا يعنى بالضرورة التسليم ببقاء مؤسسات الدولة على حالها وأن تدار بنفس الطريقة القديمة.
إن هتاف الناس للجيش والشرطة يعنى أننا نحتمى بالورقة الأخيرة التى تفصلنا عن «دول» الميليشيات التى يعمل من أجلها كثير من قادة الإخوان، ولكنها لا تعنى أن الناس ستقبل بأى إدارة سياسية فاشلة تحت حجة مواجهة الإرهاب والحفاظ على الدولة.
فدعم الدولة من قبل الغالبية الساحقة من الشعب المصرى حقيقى ومفهوم بل هو مظهر من مظاهر الوطنية المصرية الراسخة، ولكنه سيختلف تماماً حين تصبح هناك إدارة سياسية للبلاد، فهى لن تنال نفس الإجماع وسيختلف عليها ومعها وستصيب وتخفق، والنجاح الحقيقى هو فى نجاحها فى إجراء تنمية اقتصادية وإصلاح سياسى.
نقلاً عن "المصري اليوم"