عمرو الشوبكي
سافرت الأسبوع الماضى إلى لندن لحضور مؤتمر نظمته مؤسسة «ويستمنستر» حول تفعيل دور البرلمان، وهى ندوة ذات طابع فنى اعتمدت على مناقشة كيفية تنمية مهارات النواب فى مراقبه السياسات العامة، وتقديم تشريعات جديدة وتطوير عمل اللجان المختلفة.
وشارك فى هذه الندوة كاتب هذه السطور مع اثنين من النواب المصريين، وعدد من النواب المغاربة والتوانسة والجزائريين واللبنانيين والأردنيين والعراقيين، وعدد من النواب والخبراء البريطانيين، ثم حفل استقبال فى مقر البرلمان حضره أحد وزراء الحكومة البريطانية وعدد من نواب البرلمان وأعضاء من مجلس اللوردات.
والحقيقة أن كثيراً من الحاضرين العرب تحدثوا فى الشأن المصرى، وكثيراً من نواب المغرب العربى من خارج التيار الإسلامى أبدوا تحفظات على المسار المصرى الحالى، وأصر أحد النواب المغاربة- فى تعليقه على مداخلة أحد أساتذة العلوم السياسية العراقيين والمنتمين لأحد بيوت الخبرة التى تعمل مع البرلمان العراقى- على أن يؤكد أن الوضع فى العراق فى عهد صدام حسين كان أفضل بكثير من الوضع الحالى، وتحدث عن المخططات الأمريكية لتفتيت المنطقة، وتوقعت أن يكون أكثر تفهماً لما يجرى فى مصر والتحدى الذى تواجهه الدولة الوطنية، لكنه قال إن ما جرى كان انقلاباً عسكرياً، وإن دول العالم تجاوزت الحكم العسكرى، وفتح الباب أمام نقاش جانبى استمر طوال أيام الندوة.
وحين ذهبنا فى اليوم الأخير إلى حفل الاستقبال الذى أقيم داخل إحدى قاعات مجلس اللوردات (معين بالكامل من قِبَل الملكة) وأعقبته زيارة لقاعات مجلس العموم ثم مجلس اللوردات (هى أعرق وأفخم قاعة شاهدتها فى حياتى)، واستمعنا لشرح مفصل لطريقة عمل البرلمان وتاريخه. والمدهش أن بريطانيا العريقة حافظت على تقليد منذ مئات السنين، وغير متكرر فى دول أوروبا الديمقراطية، وهو أن نواب الشعب المنتخبين يأتون فى يوم إلقاء الملكة خطابها فى مجلس اللوردات ليطرقوا باب المجلس العتيق فيفتح لهم الحرس الباب ويدخلوا فى صمت ليستمعوا لخطاب «جلالة الملكة» وهم واقفون، فى حين يبقى «اللوردات» فى مقاعدهم جالسين، فى مشهد نادر الحدوث إلا فى بريطانيا ذات التقاليد الملكية والديمقراطية معا.
ذكر لى السفير المصرى النشيط فى لندن أن كثيرا من البريطانيين الذين قابلهم كانوا يقولون له إنهم حريصون على القيام بعمل كبير لصالح بلدهم حتى تعينهم الملكة فى مجلس اللوردات.
وتذكرت على الفور حواراتنا حول مجلس الشورى فى مصر (كنت من معارضيه لأن الرأى العام لا يثق أن أعضاءه سيعينون على أساس الكفاءة والعطاء والخبرة وليس نفاق السلطة كما جرى فى عهد مبارك).
والحقيقة أن علاقتنا ببريطانيا، وتحديدا «لندن»، هى علاقة تاريخية منذ أن كنت طالبا فى فرنسا فى منتصف التسعينيات وذهبت إلى هناك لأقضى 4 أشهر لتحسين (أو استعادة) اللغة الإنجليزية، وحضور بعض محاضرات العلوم السياسية فى جامعة «ويستمنستر» وجامعة لندن، وعرفت منذ اللحظة الأولى أننا أمام نموذج آخر مختلف ومنافس للنموذج الفرنسى.
ولأنى عشت فى فرنسا ثمانى سنوات فأنا أعرف جيدا بريق النموذج الفرنسى فى جوانبه التحررية والليبرالية (وأحيانا الثورية)، وكانت ثورة الطلاب فى 68 فى فرنسا من العوامل التى شجعتنى على الذهاب لهذا البلد والدراسة فيه، وظل النموذج البريطانى بالنسبة لى هو النموذج الرجعى المحافظ الذى لم يكن فيه يسار ثورى كما كان فى فرنسا، إلى أن زرت بريطانيا 8 مرات وبدأت أعيد النظر فى بعض هذه التصورات.
ويمكن اعتبار الثقافة البريطانية إجمالاً ثقافة محافظة بطيئة التغيير، ليس فى تاريخها ثورات أحدثت قطيعة مع النظام القائم، إنما هى ثورات من أجل إصلاح النظام القائم، وبالتالى تطورت نحو الملكية الدستورية، وليس النظام الجمهورى على الطريقة الفرنسية.
وبريطانيا دولة أوروبية «أمريكية الهوى»، تدفعها ثقافتها الأنجلوسكسونية إلى التحالف الدائم مع أمريكا، وتتسم سياستها الخارجية بالعملية الشديدة والهدوء الذى يصل أحيانا لدرجة البرود، ومع ذلك شيدت فى الداخل نموذجا فريدا فى التعامل مع الأقليات العرقية ربما يكون غير مسبوق فى العالم كله.
إن تقاليد هذا البلد العريقة جعلته البلد الوحيد فى العالم الذى يتسامح بهذا الشكل اللافت مع الأقليات العرقية والدينية، ومع أيضا (وهذا هو الأهم) حريتها فى التعبير عن تمايزها الثقافى والدينى (الجلباب والحجاب وأحيانا النقاب للمسلمين، وغطاء الرأس الخاص بالهندوس)، وهو البلد الوحيد الذى يُسمح فيه للشرطة بارتداء عناصرها لغطاء رأس إسلامى أو آخر هندوسى بشرط وضع الشارة الملكية، فى حين أن القانون فى بلد مثل فرنسا يجرم ارتداء النقاب ولو فى الشارع، ويمنع ارتداء الحجاب فى المؤسسات العامة والمدارس الحكومية، فى حين أن التنوع الثقافى والعرقى فى بلد مثل بريطانيا مثّل عنصر تفرد بريطانى من الصعب تكراره فى بلد أوروبى آخر.
وفى لندن ستجد فى المؤسسات البريطانية العامة والخاصة مسلمات محجبات يبعن لك سلعة أو يقدمن لك خدمة دون أى مشكلة، وهى مشاهد يستحيل أن تجدها فى بلدان أوروبية أخرى، خاصة فرنسا، على اعتبار أن قيام بعض الفتيات بارتداء الحجاب سيهدم النظام العلمانى الفرنسى!!، بل إن محال «داندوز» الشهيرة فى بريطانيا تقدم وجبات الدجاج المشوى فى كثير من فروعها المذبوح وفق الشريعة الإسلامية دون أى اعتراض، فى حين أن محل «كويك» النظير لـ«ماكدونالد» فى فرنسا ثارت أزمة ضد فرعين من فروعه قدما لمدة عامين لحماً حلالًا فهاجت الصحافة، واعتبرت أن هذا الأمر يهدد العلمانية الفرنسية، ودفعتهما إلى التراجع.
والحقيقة أن بريطانيا حالة أوروبية فريدة، فهذا المجتمع المحافظ الذى يصفه البعض بأنه بارد، أنتج واحدا من أكثر المجتمعات الأوروبية تسامحاً وديمقراطية تجاه الآخر، وترجم «محافظته» السياسية بشكل كفء وفعال فى مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة.
ومن المعروف أن الجامعات البريطانية كلها بمصروفات مرتفعة (مع وجود نظام واسع فى المنح الدراسية)، لكنها حوّلت هذه المصاريف إلى منتج علمى حقيقى يقدم للطالب، وهو فى الحقيقة على عكس الحالة المصرية التى امتلكت فيها كثير من الجامعات الخاصة ثقافة الحصول على المال قبل تقديم العلم، فى الوقت الذى تدهور فيه مستوى الجامعات الحكومية حتى امتلكنا جامعات عامة وخاصة متراجعة لأن المدافعين عن التعليم بمصروفات أو التعليم العام قد فشلوا باقتدار فى تقديم نظام تعليمى به الحد الأدنى من الكفاءة المطلوبة.
من المؤكد أن الخبرة البريطانية تقول لنا إن الوصول إلى بناء نموذج ديمقراطى ودولة متقدمة ليست له وصفة واحدة سحرية، وإن تنوع الخبرات دليل حيوية وعلامة قوة، وإن الوصف الذى أطلقته مرة على النموذج البريطانى: «بريق الهدوء»، يظل حاضراً فى كل مرة أذهب فيها إلى لندن.
نقلاً عن "المصري اليوم"