عمرو الشوبكي
ما أكثر الحديث عن عودة الوجوه القديمة، وجوه نظام مبارك الذى سقط بفعل ثورة شعبية، بعد أن جثم على صدر الشعب المصرى 30 عاما حدث فيها تجريف هائل وغير مسبوق فى تاريخ الدولة المصرية منذ تأسيسها فى 1805 على يد محمد على.
البعض يكرر نفس الجملة لا لعودة الوجوه القديمة فى كل مرة يقابل فيها مسؤولا، (آخر مرة فى لقاء بعض الشباب مع الرئيس المؤقت)، أو يتحدث إلى وزير الدفاع الحالى، المرشح الرئاسى القادم المشير السيسى، ويطالبهم جميعا بمنع الوجوه القديمة من العودة إلى الساحة السياسية «بكبسة زر»، كما يقول اللبنانيون، وبفرمان رئاسى يقضى بعزلهم سياسيا أو منعهم من الظهور، (لا نعرف كيف)، وهو ما لم يحدث مع أحد سواء كان من الإخوان أو من الحزب الوطنى كما نص الدستور الجديد.
والحقيقة أن معضلة البحث عن حماية من خارج ساحة التنافس السياسى تعكس عدم قدرة على مواجهة المنافسين والخصوم بسلاح الديمقراطية وبدولة القانون، فالبحث عن حماية خاصة يشبه البحث عن حصانة خاصة، فالأول يقر بعجزه عن بناء بديل سياسى يهزم وجوه مبارك فى أى انتخابات قادمة، والثانى يقول إنه فى حاجة إلى مسار استثنائى باسم الثورة والخيارات الثورية ليحمى اجتهاداته السياسية ويضعها فوق رؤوس الناس.
إن تجارب الشرعية الثورية فى كثير من دول العالم كانت تكأة لمحاربة الخصوم السياسيين، وليس فقط أو أساسا وجوه النظام السابق، فكما شاهدنا فى بعض التجارب كان إقصاء الوجوه القديمة هو المدخل لإقصاء الوجوه الجديدة، هكذا حاول الإخوان فى مصر، وهكذا فعلت روسيا الشيوعية حين قضى ستالين على معظم رفاقه فى الحزب الشيوعى الذين قاموا بالثورة باعتبارهم برجوازيين وأعداء للثورة، ونفس الأمر شاهدناه مع الثورة الإيرانية العظيمة- آخر تجربة بناء نظام سياسى جديد عبر الشرعية الثوريةـ حين قضت على كثير من أركان النظام القديم ومن عملاء جهاز الأمن القاتل «السافاك»، لكنها أيضا قضت على كثير من الاتجاهات السياسية التى شاركت فى الثورة مع تيار الإمام الراحل الخمينى، واعتبرتهم من أعداء الثورة وممن خانوا مبادئها.
الثورة لا تُستدعى حسب الطلب والمصلحة، واحترام القانون هو فى صلب مبادئ الثورة وأهدافها، وهى حدث استثنائى وليست هدفا ولا غاية، إنما هى وسيلة لتحقيق هدف آخر هو تقدم ونهضة المجتمع، وهناك تجارب كما أشرنا سابقا كرست فيها الثورات لنظم استبدادية تحت مسمى الشرعية الثورية والقرارات الثورية والحفاظ على الثورة من أعدائها من رموز النظام القديم أو النظام الرجعى.
والحقيقة أن المجتمعات التى لم يشعر قادة التغيير فيها بأن على رأسهم ريشة لأنهم «ثوار» وأسسوا لنظم ديمقراطية فاعلة وذات كفاءة هى التى نجحت، فى حين أن تجارب الفشل الذريع هى التى أسست لشرعية ثورية ومحاكم ثورية وإجراءات استثنائية.
إن هناك فارقا جذريا بين قوى وتيارات تؤمن بقيم ومبادئ الثورة وتسعى من خلالها إلى تغيير المجتمع وتحسين ظروف الناس، وقوى وتيارات توظف الثورة حسب الطلب والمصلحة، فتتخلى عنها حين تكون مصلحتها مع الديمقراطية ودولة القانون، وتستدعيها حين تكون طريقا للهيمنة أو المعارضة كما فعل الإخوان حين وظفوا خطاب الثورة لقمع المعارضين ووصفوهم جميعا بالفلول وأعداء الثورة، وحين أصبحوا فى المعارضة استدعوا خطاب «الثورة مستمرة»، وتحول حسن البنا المحافظ الرافض للثورة إلى تروتسكى جديد (المنظر الشيوعى لفكرة الثورة الدائمة).
المشكلة ليست فى وجوه النظام القديم، إنما فى المنظومة القديمة التى حمت وأنتجت رجال النظام القديم، فمصر لن تتقدم إلا حين تنجح فى تغيير هذه المنظومة التى مازالت تقريبا كما هى رغم تغير الأشخاص والرموز.
إن مهمة تفكيك المنظومة القديمة بشكل جراحى ومتدرج تكاد تكون هى المهمة الثورية الوحيدة المطلوب إنجازها الآن، وإن من المهم العمل على وضع أساس سياسى وقانونى جديد لإدارة العملية السياسية، فتجرى الانتخابات بصورة نزيهة، خاصة أن هناك عودة سياسية للوجوه القديمة التى اعتاد كثير منها على البلطجة والتزوير، ولم تعرف فى حياتها معنى الانتخابات النزيهة وشرف المنافسة الحرة.
والحقيقة أن الإطار الأهم والأبرز الذى يجب أن تتمسك به قوى التغيير فى مصر يتمثل فى ضمان وجود إطار قانونى يحترم الدستور وينفذ ما جاء فيه من مبادئ، ويضمن نزاهة العملية الانتخابية وليس مطالبة السيسى بأن يحارب رموز النظام القديم نيابة عن «القوى الثورية»، ثم تطالبه فى نفس الوقت بألا يكون حاكما ديكتاتورا، وألا يعيد إنتاج حكم الفرد.
المطلوب ليس إقصاء أحد من رموز النظام القديم أو الجديد، فالشعب المصرى هو وحده القادر على أن يختار ممثليه فى أى انتخابات قادمة، إنما المطلوب فقط من النظام الجديد أن يضمن نزاهة العملية الانتخابية، وأن يحول دون جعل التزوير وشراء الأصوات هو طريق النجاح فى أى انتخابات.
للأسف، البعض لا توجد لديه أى مشكلة مع «الفلول»، فكثيرا ما ينسق معهم سرا، إنما مشكلته مع كعكة السلطة التى يريد أن يلتهمها وحده، فيخرج مثل الحاوى خطاب الفلول لإقصاء كل القوى المحافظة والتقليدية، وهناك من يخرج خطاب الأجندات ومؤامرات الخارج ليقضى على كل القوى المدنية والتقدمية، فالموضوع أساسا هو غنيمة السلطة التى يرغب فى اقتناصها كل فصيل (وأحيانا شلة) وحده تحت حجج ومبررات كثيرة.
المطلوب هو التخلص من النظام القديم وليس الوجوه القديمة، (التى تتوارى كل يوم)، فالإخوان كانت معركتهم مع الوجوه القديمة وليس النظام القديم، فحاولوا التخلص من الأولى وسعوا للاحتفاظ بالثانى بعد تمكنهم منه، والبعض الآن يريد تكرار نفس الخطأ، فيتحدث عن الوجوه القديمة أكثر مما يتحدث عن النظام القديم، فمع الأولى لا توجد معركة حقيقية، أما مع الثانى فهو القول الفصل وهو التحدى الأكبر، إذا نجحنا فى تفكيكه فسنتقدم، وإذا فشلنا فسنعود للخلف حتى لو وضعنا وجوهاً جديدة محل القديمة.
نقلاً عن "المصري اليوم"