عمرو الشوبكي
فى مصر وتركيا مثلث أضلاعه هى الجيش والقوى المدنية والتيارات الإسلامية، وفى تركيا بنى الجيش بزعامة مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية عام 1923، وفى مصر أسس الجيش بقيادة جمال عبدالناصر الجمهورية عام 1954، وفى كلا البلدين كانت هناك نخبة مدنية قادت التحديث بدعم من الجيش فى أحيان كثيرة، وبقيت تركيا مثل مصر عقب تأسيس الجمهورية بلا تعددية حزبية حتى عام 1946، فى حين بقيت مصر كذلك حتى عام 1976، صحيح أن التعددية فى كلا البلدين لم تعن تحولهما نحو الديمقراطية، إلا أنها عنت وجود هامش سياسى ميزهما عن النظم الديكتاتورية الكاملة، مع فارق رئيسى أن تركيا لم تعرف تزويراً فى الانتخابات، وحافظت كما قال لى ذات مرة أحد مستشارى الرئيس الحالى: «حافظت تركيا على شرف الصندوق».
ورغم تباين السياق الثقافى والاجتماعى والتاريخى بين البلدين فإن التجربة التركية هى الأقرب ربما بين بلدان العالم الإسلامى للمقارنة مع مصر، ليس بغرض استنساخها، إنما لفهم طبيعتها والاستفادة مما يمكن أن يكون مفيداً للخبرة المصرية.
والحقيقة أن هذا البلد الذى زرته ما يقرب من 20 مرة منذ 2002 وقارنت بين الحركة الإسلامية فى تركيا ومصر، (راجع كتابى «إسلاميون وديمقراطيون» الصادر فى 2004 عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)، امتلك مقومات تقدمه التى صنعها من خلال تفاعلاته الداخلية، حتى لو ساعده الخارج أحياناً، فلا يوجد هناك «كرزاى تركى» (مثلما حدث فى أفغانستان والعراق حين قامت الولايات المتحدة بصناعة التغيير من الألف إلى الياء)، وهذا ما جرى فى مصر حتى الآن، حيث كانت ثورة 25 يناير صناعة مصرية بامتياز، وحماها جيش وطنى بامتياز، وهو أمر مازال يقلق دوائر كثيرة فى الولايات المتحدة.
أما المقارنة الثانية وحدودها فتتعلق بطبيعة علاقة الجيش بالسياسة ودرجة تدخله، فإذا كان من الوارد مقارنة نشأة الجمهورية المصرية بنظيرتها التركية فى بعض الجوانب، فالجيش فى كلا البلدين قام بتأسيس الجمهورية، وهناك احترام شديد لوطنيته ودوره فى مصر وتركيا، كما أن كلاً من جمال عبدالناصر ومصطفى كمال أتاتورك ينظر إليهما باعتبارهما أبطال تحرر وطنى، وكلاهما أسس نظاماً سياسياً دون تعددية حزبية استمر فى كلا البلدين لأكثر من عقدين، وشهدت تركيا انقلابين عسكريين مباشرين أحدهما (1980) اعتقل فيه ما يقرب من 500 ألف مواطن، فى أعقاب موجات من الاقتتال الأهلى شهدتها تركيا فى السبعينيات، وراح ضحيتها حوالى 50 ألف قتيل.
صحيح أن الجيش التركى كانت له انحيازاته السياسية ودافع عن علمانية الدولة، إلا أن تدخله الأكبر فى عام 1980 كان عقب انهيار اقتصادى واقتتال أهلى شهده المجتمع التركى، وهو ما يعنى أن المساحة التى ملأها الجيش كانت بسبب الفراغ والتخبط الذى عرفته الساحة السياسية.
أما المقارنة الثالثة فتتعلق بنجاح تركيا فى بناء مؤسسات تحكم فى أغلب الفترات بالقانون، حتى لو كان قانوناً ظالماً، صحيح أنها لم تكن ديمقراطية معظم الوقت، إلا أن وجود قاعدة قانونية محددة، (أياً كان الرأى فيها، وبصرف النظر عن ديمقراطيتها) تحكم العملية السياسية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، جعل هناك أساساً حقيقياً للتقدم والتحول الديمقراطى، وهو ما جعل عملية دمج الإسلاميين تتم من خلال قاعدة قانونية ودستورية ودولة مؤسسات قوية وراسخة ساعدت على الانفتاح والتطور الديمقراطى، حتى بنى مع التيارات العلمانية قاعدة ديمقراطية حديثة، وهذا فى الحقيقة ما حدث عكسه فى مصر، فدستور 71 أسقطه المجلس العسكرى فى إعلان دستورى تحت ضغط تيار واسع من القوى المدنية، مطالباً بربط إسقاط النظام بإسقاط الدستور، وفتح الباب أمام الإخوان وحلفائهم إلى مناقشة كل البديهيات المتعلقة بأساس الدولة الوطنية ومبادئ الديمقراطية، فى ظل ضعف مؤسسى هائل.
وقد أدى وصول الإخوان للسلطة، دون وجود دستور وقواعد قانونية تحدد سلفاً قواعد اللعبة السياسية، إلى قيامهم بوضع دستور على مقاس الجماعة، وهو ما ترتبت عليه انتفاضة شعبية واسعة فى 30 يونيو، وبدايات اقتتال أهلى أدت إلى تدخل الجيش، وإنهاء حكم الإخوان، ووضع البلاد أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والأخطار.
والحقيقة أن بناء دولة المؤسسات كان من الأسباب الرئيسية التى سمحت لتركيا بأن تتقدم، خاصة أنها فرضت على الجميع احترامه، بصرف النظر عن مدى قناعتهم به، فتَعَلَّم الجميع احترام القانون أولاً، ثم السعى لتغييره بالوسائل الديمقراطية والسلمية ثانياً.
إن الملمح الرابع للمقارنة بين مصر وتركيا يتعلق بطبيعة التيارات الإسلامية فى كلا البلدين، ففى تركيا قام رجب طيب أردوجان ببناء حزب جديد يختلف فى رؤيته الفكرية والسياسية عن تلك التى قامت عليها كل الأحزاب الإسلامية فى تركيا والعالم العربى، خاصة جماعة الإخوان المسلمين التى تحالف معها بمنطق التابع للوالى العثمانى، فلم يصنف نفسه من الأساس باعتباره حزبا «إسلاميا ديمقراطيا»، كما فعل أستاذه الراحل أربكان، إنما «محافظ ديمقراطى»، وأعلن تمسكه بالعلمانية، ولكنه طالب بأن تكون علمانية على الطريقة الأوروبية، أى تفصل بين الدين والدولة، ولا تتدخل الثانية فى أمور الأول، كما تفعل العلمانية التركية التى قامت فيها الدولة بقهر المؤسسات الدينية. وربط حزب العدالة والتنمية القيم الإسلامية بـ«المحلية التركية»، وصار الحديث عن الثقافة والخصوصية التركية مرادفاً، ولو ضمناً، للحديث عن القيم الإسلامية، دون أن يتبنى تطبيق الشريعة الإسلامية، معتبرا أنه «حين توجد مصلحة الناس يوجد شرع الله».
والمؤكد أن التحول الذى شهدته تجربة أردوجان بعد بقائه 12 عاماً فى السلطة ذو دلالة، فقد بدأت كنموذج نجاح وانتهت كخبرة فشل، وهى تعنى أنه لا توجد تجربة إنسانية محصنة، خاصة بعد أن تبقى فترة طويلة فى السلطة، فتجربة أردوجان دخلت فى مرحلة الغروب واقتربت من الأفول.
إن دفاع أردوجان المستميت عن تجربة الإخوان الفاشلة يعنى انتقاله من مرحلة النجاح والفهم السياسى المستنير إلى التعثر والفهم السياسى المغلق، وهو ما اتضح من تزايد حجم المشاكل داخل تركيا وتعمق الفجوة الجيلية بينه وبين الشباب التركى الجديد، ورهانه على تجربة فشل مثل الإخوان يدل على أنه يعيش حالة فشل فى بلده.
إن فى تركيا استقطاباً سياسياً يعكس فى جانب منه تبايناً ثقافياً وحضارياً بين القوى العلمانية والتيارات المرتبطة ثقافياً بالإسلام، وفيه نجحت الأخيرة فى جعل النظام العلمانى أكثر ديمقراطية وانفتاحاً، على عكس مصر التى حاول فيها الإخوان خطف الدولة وتفصيل الدستور على مقاس الجماعة.
المدهش والمحزن فى نفس الوقت أن السياق الدستورى والقانونى المصرى لم ينص على علمانية الدولة، كما فى تركيا، إنما على أن دينها هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، وأن أغلب القوى المدنية تؤمن بالمادة الثانية من الدستور، فلا توجد فى مصر تقريباً تيارات مدنية تتبنى علمانية على الطريقة التركية، ومع ذلك يقول الإخوان إن معركتهم من أجل الإسلام والحكم الإسلامى وليس السلطة التى أثبتوا أنهم مستعدون للموت فى سبيلها، حتى لو كان الثمن هو الشعب والوطن.