هي مفارقة ذات دلالة، هذا التفاوت في الموقف الأميركي تجاه حركتين واجهتهما بقوة ورفضت أفكارهما ومشروعهما السياسي، وهما حركتا «طالبان» الأفغانية و«حماس» الفلسطينية.
لقد دخلت الولايات المتحدة والجيش الأفغاني، الذي أنشأته، في حرب ضد حركة «طالبان» استمرت 20 عاماً وانتهت بانسحاب أميركا وسقوط كابل في أيدي عناصر الحركة في أغسطس (آب) 2021، بالمقابل سنجد أن حركة «حماس» لم تحارب الولايات المتحدة ولم تقتل جنودها، ولكنها واجهت حليفتها «المقدسة» إسرائيل فاتخذت أميركا موقفاً من «حماس» أكثر عدائية من موقفها من حركة «طالبان».
والحقيقة أن مفارقة هذا الموقف تكمن في أن الولايات المتحدة أقرت بعد 20 عاماً أن وجودها في أفغانستان بات يمثل سلطة احتلال ثقيلة على الشعب الأفغاني، رغم كل المحاولات التحديثية التي حاولت فرضها على المجتمع الأفغاني وإنفاقها نحو تريليون دولار وفق تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن من أجل إعادة تأسيس جيش أفغاني جديد وأجهزة أمنية ومؤسسات إدارية «شكلها حداثي»، كما استوردت نخباً أفغانية متعلمة تعليماً غربياً متميزاً وحاولت زرعها في البيئة الأفغانية وفرضها على قيادة البلاد وفشلت.
والحقيقة أن التقبّل الأميركي للنهاية المحتومة لأي سلطة احتلال، ولو ارتدت ثياب «تحديث البلد»، هو الانكسار والهزيمة، ولكنها فعلت عكسه مع سلطة احتلال غاشم كإسرائيل تنفق الملايين على تطوير سلاحها لقتل وقمع الفلسطينيين، وضاعفت منذ اتفاق أوسلو للسلام أعداد المستوطنات في الضفة الغربية ومعها أعداد المعتقلين واستهدفت المدنيين ونغصت عليهم معاشهم اليومي.
في الحالة الأولى لم تصنف أميركا «طالبان» التي حاربتها وقتلت المئات من جنودها «حركة إرهابية» أما في الحالة الثانية فصنّفت أميركا «حماس» قبل عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) «حركة إرهابية» وتجاهلت مسؤولية سلطة الاحتلال إلا ببعض التصريحات الطيبة التي ترى أهمية السلام وحل الدولتين وتركت إسرائيل على الأرض تنسف كل مقومات السلام.
مفارقة هذا الموقف تكمن في أن أميركا أقرت بفشل معادلة «الاحتلال الطيب» التي حاولت أن تقدمها في أفغانستان بتحديث البلد وزرع نموذج ديمقراطي ومؤسسات حديثة وانسحبت، في حين لم تسعَ بشكل جاد لتغيير معادلة «الاحتلال الشرير» التي تمارسها إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة من تهجير وقتل واستهداف للمدنيين.
واللافت أن أميركا في حالة أفغانستان لم تبنِ موقفها من «طالبان» على أساس التصنيف السياسي، أو طالبتها بتعديل توجهاتها العقائدية، خاصة موقفها من المرأة قبل تسليمهم حكم البلاد إنما تركت لهم البلد يحكمونه وكان لسان حالها يقول «اصطفلوا» مع بعض.
وعلى خلاف حركة «حماس» التي شاركت في الانتخابات الفلسطينية في 2006 وفازت فيها بالأغلبية، لا تؤمن حركة «طالبان» بالانتخاب، فأميرها يتم اختياره من «أهل الحل والعقد»، وحتى الشورى تعدّها غير ملزمة إنما للاسترشاد، كما ترفض الأحزاب وتعدّها نوعاً من «العصبية الجاهلية». وقد مثل البناء العقائدي لحركة «طالبان» تربة خصبة لتحالفها مع تنظيم القاعدة، وذلك عقب قرار أسامة بن لادن نقل أنشطه تنظيمه من السودان إلى أفغانستان في الفترة من 1996 حتى 2001؛ حيث وفّرت له الحركة ملاذاً آمناً حتى اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، التي كانت السبب الرئيسي وراء غزو أميركا لأفغانستان واحتلالها لمدة 20 عاماً.
وتعد حركة «طالبان» من أكثر التنظيمات الإسلامية محافظة وتشدداً، فلديها بنية عقائدية فيها كثير من الدين وقليل من السياسة، وقد يكون قرارها الأخير بمنع تعليم الفتيات، وأعقبته بقرار آخر بمنع النساء من العمل في القطاع الخاص، يمثل سابقة غير متكررة في تاريخ النظم والجماعات الدينية المتشددة، فجميعها لم تمنع تعليم النساء، إنما منعت الاختلاط في فصول الدراسة، وسمحت لهن بالتعلم والعمل في وظائف بعينها.
يقيناً حركة «حماس» أكثر سياسية وأكثر انفتاحاً في كل القضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بالمرأة والحقوق الشخصية التي يدافع عنها الغرب مقارنة بـ«طالبان»، ولكنها حركة إقصائية تمسكت بالسيطرة على قطاع غزة وعمقت من انفصاله عن الضفة الغربية، كما أنها لا تمثل شريكاً سياسياً مقنعاً لأي طرف دولي، خاصة بعد خبرتها السلبية في إدارة غزة.
ومع ذلك فإن الموقف الأميركي من «طالبان» حكمه في النهاية عامل واحد هو أن «الاحتلال الطيب» الذي جاء إلى أفغانستان وأنفق المليارات ليؤسس نموذجاً بديلاً لحكم «طالبان» قد فشل، وأن أميركا اعترفت بذلك واكتشفت أن ما ينتهي هو نمر من ورق وقبلت بالخسارة وتركت أفغانستان لأهلها، في حين أنها لا تقر بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو أصل الداء وأن الحل في انسحاب جيش الاحتلال وبناء دولة فلسطينية مستقلة.
لم يستطع أحد أن يقضي على حركة تحرر حتى لو صنفها إرهابية، ولم يناقش أحد إذا كانت مستوفاة شروط القبول من المجتمع الدولي أم لا، صحيح أن تنظيمات التطرف والإرهاب يمكن القضاء عليها أو تهميشها مثل «داعش» و«القاعدة» وغيرهما لأن قاعدتهم الاجتماعية والشعبية مؤقتة ومحدودة، أما «حماس» أو «طالبان» وقبلهما جبهة التحرير الوطني الجزائرية (التي صنفتها فرنسا أيضاً جماعة إرهابية) وغيرها الكثير لا يمكن القضاء عليهم لأنهم مرتبطون بقضية مجتمعية وليس فقط مجرد خيار عقائدي أو آيديولوجي.
صحيح يمكن تفكيك قوة «حماس» العسكرية وكسرها كما تنوي إسرائيل، لكن حاضنتها الشعبية والاجتماعية ستفرز حركة جديدة باسم ومضمون جديدين سيكون هدفهما زوال الاحتلال وتحقيق التحرر والاستقلال.