فى مثل هذا اليوم من عام 1967 كانت مصر تغنى لتحرير فلسطين، وكان البعض يهتف صباحا ومساء: «يا ناصر يا حبيب بكرة حتدخل تل أبيب»، وكانت إذاعة صوت العرب تتوعد الأعداء الصهاينة بالهزيمة الساحقة وتَعِد الشعوب العربية بالنصر المبين.
وجاء اليوم التالى: 5 يونيو ليعلن عن هزيمة مصر القاسية، بعد أن نجحت إسرائيل فى تدمير سلاح الجو وهو مرابط على الأرض، واحتلال سيناء كاملة فى 6 أيام وهزيمة الجيش المصرى، بسبب سوء الإدارة السياسية والعسكرية على السواء.
لم ينقذ مصر هتاف إعلامييها للوطن وقائده، ولم يمنع بناؤها واحدا من أعظم مشاريعها التنموية- وهو السد العالى- من هزيمتها نتيجة تردى إدارتها السياسية، بل يمكن اعتبار هزيمة 67 ليست فقط مجرد نكسة عسكرية، إنما انكسارا مؤكدا لأحلام جيل كامل آمن بقيادة عبدالناصر ومشروعه السياسى، وانتظر أن تحرر فلسطين من البحر إلى النهر، فوجد أراضى 3 دول عربية احتُلت فى ساعات، ومعها القدس والضفة الغربية.
والحقيقة أن هزيمة 67 رغم قسوتها إلا أنها مثلت حالة فريدة لم يعرفها العالم العربى، وتمثلت فى اعتراف أول زعيم عربى بهزيمته، (رغم أنه أمر متكرر فى بلاد أخرى) وتحمّله المسؤولية كاملة بتقديمه استقالته التاريخية فى 9 يونيو 1967 معلناً جملته الشهيرة: «وأقول لكم بصدق، ورغم أى عوامل أكون قد بنيت عليها موقفى فى الأزمة، إننى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها. ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه، لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر».
ولم ينسَ عبدالناصر أن يؤكد فى خطابه فى نفس الوقت على مواقفه المبدئية من الاستعمار، الذى اعتبر أن معركته هى مع الأمة العربية كلها وليس شخص عبدالناصر.
ورفض اعتبار استقالته تعنى تصفية الثورة كما يعتبر بعض الحكام أن شخوصهم هى النظام والدولة والشعب، (والثورة طبعا إذا كانت هناك ثورة)، وأن اختفاءهم أو ظهور من ينافسهم هو تهديد للدولة والنظام ومصالح الشعب، لأنه كما قال: الثورة «ليست حكراً على جيل واحد من الثوار. وإنى لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار».
لقد حقق استقلال مصر وحدد شخصيتها العربية، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولاً عميقاً فى الواقع المصرى، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعى فى مصر، وبنى السد العالى.
وتحدث عن الشعب والجيش، قائلا: «لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمنا صادقاً مخلصاً. وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجا مشرفاً للإنسان العربى فى كل زمان ومكان.
لقد دافعوا عن حبات الرمال فى الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم وكانوا فى الجو- ورغم التفوق المعادى- أساطير للبذل والفداء والإقدام والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأى أنانيات أو مشاعر فردية.
إن قلبى كله معكم. وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى.
وليكن الله معنا جميعاً.. أملاً فى قلوبنا وضياءً وهدى».
وفى أعقاب انتهاء عبدالناصر من خطاب التنحى، خرج الملايين من أبناء الشعب المصرى والشعوب العربية فى مظاهرات غير مسبوقة تتمسك بقيادة عبدالناصر، وأجبرته على التراجع عن الاستقالة، وبعدها قام الرجل بأهم مراجعة نقدية شهدها نظام سياسى عربى فى العصر الحديث، فأجرى إصلاحات عميقة فى قيادة المؤسسة العسكرية، وقدم قيادات جديدة محترفة، وحاسب القيادات المسؤولة عن الهزيمة، حتى لو اعتبر شباب الجامعات أن المحاسبة لم تكن كافية، وقدم بيان 30 مارس الذى فتح الباب أمام بناء نظام سياسى ديمقراطى وتعددى، وكتب هيكل وأحمد بهاء الدين وآخرون عن زوار الفجر والانتهاكات التى ارتكبت فى حق قوى وتيارات سياسية مختلفة، وشهدت مصر جدلا فكريا وسياسيا عميقا لم تعرفه من قبل: «هل هُزمنا لأننا لم نكن اشتراكيين جذريين ولم نتبنّ الماركسية اللينينية ونلحق بركب البلدان الشيوعية، أم لأننا لم نهادن أمريكا ونبنِ مجتمعا رأسماليا يكتفى بوضع العدالة فى أولوياته، أم أننا كنا بعيدين عن الله كما روج البعض، فكانت هزيمة 67 رسالة غضب من الخالق على النظام السياسى الذى ترك الشريعة لصالح الاشتراكية؟».
وقد خرجت فى 1968 مظاهرات الطلاب والعمال ضد نظام عبدالناصر، وهى جاءت من جيل تربى فى مؤسساته التعليمية والسياسية، ولم يكن بينهم تكفيرى ولا إرهابى واحد، وكل من يتصور أن جماعات العنف التى ظهرت فى مصر بعد ذلك هى نبت شيطانى هبط علينا من السماء واهم، فهى فى الأساس نتاج تربة محلية ونظم سياسية ساعدتها على النمو بأخطائها الفادحة.
إن تاريخ الحكام العرب مع الهزائم والانكسارات كبير، فهزيمة 67 لم تغير فى بنية أى نظام عربى إلا نظام عبدالناصر، وهزيمة صدام حسين فى الكويت كانت فادحة، ولكنه لم يعترف بها، وخرج معلنا أنه انتصر فى «أم المعارك»، ولو كان فعل واستقال لكان وضع العراق والعالم العربى أفضل الآن مائة مرة، ولما كانت الولايات المتحدة قد جرؤت على غزو وتدمير دولته، بعد أن تحول إلى لقمة سائغة فى يد المتربصين.
المؤكد أن 5 يونيو 1967 كان يوما أسود فى التاريخ العربى المعاصر، ولكنه أيضا كان نقطة تحول تعلمت فيها مصر معنى مراجعة أخطائها، ولم يكابر زعماؤها فى الاعتراف بالهزيمة، إنما كانوا هم طريق العبور إلى النصر فى أكتوبر 1973. منظومة النكسة كانت معروفة: غياب دولة القانون، خطاب إعلامى لا علاقة له بالواقع، شعارات وهتافات وشتائم غطت على الإنجازات التى جرت على الأرض، وأخيرا سوء إدارة عسكرية مع عدو متربص، فكانت الهزيمة القاسية. والسؤال الذى يُطرح الآن بعد 48 عاما على 5 يونيو: «هل وعينا جيداً المقدمات التى أدت إلى الهزيمة حتى لا نكررها، أم أننا لم نغير شيئا عما كان موجودا فى عهد مبارك، رغم إنذار يناير ووجود تحديات لا ترحم؟».