عمرو الشوبكي
قرأت على مدار أربعة أيام الصحف الفرنسية الثلاث الكبيرة: اللوموند المصنفة فى الوسط والأكثر تأثيراً، والليبراسيون وتصنف فى اليسار، والفيجارو وتصنف فى اليمين، وإذا كان مفهوماً أن تتعامل النخبة السياسية مع قضية أوكرانيا بعين واحدة هى المصالح والحسابات السياسية، فإن المدهش وربما الصادم أن يتعامل الإعلام الفرنسى مع هذه القضية بالعين نفسها.
فصحيفة الفيجارو مثلا عنونت صدر صفحاتها الأولى بأخبار الثورة فى أوكرانيا وقدمت دعما كاملا للمعارضة وللعمل الثورى ولاقتحام المصالح الحكومية وأغمضت عينيها عن وجود جماعات فاشية وسط المتظاهرين، وإن أشار للموضوع أكثر من معلق فرنسى فى عدد من البرامج الحوارية، وتكرر نفس الأمر مع صحيفة الليبراسيون اليسارية حين انحازت لمن وصفتهم أنصار أوروبا، وطالبت الأخيرة بألا تخونهم.
صحيح أن هناك جانباً رئيسياً من الصراع السياسى فى أوكرانيا ثقافياً (راجع مقال مصر وأوكرانيا يوم الثلاثاء الماضى) بين أنصار الاتحاد الأوروبى، وبين أنصار روسيا يمكن تقسيمه تقريبا فى معادلة الثلاثة أثلاث (ليس برنامج تلت التلاتة الذى يقدمه الكاتب الصحفى عمرو خفاجة)، أى هناك ثلث مرتبط عرقياً واجتماعياً وثقافياً مع روسيا، وهناك ثلث آخر مرتبط بأوروبا، وهناك ثلث ثالث لا يتخذ موقفاً مسبقاً من الكتلتين، فإذا جاء رئيس جمهورية أو حكومة نصيرة لروسيا ولبّت احتياجات أغلب الأوكرانيين سيدعمها هذا الثلث، وإذا لم تلب احتياجاته فسيقف ضدها، وهذا ما جرى مع هذا الثلث حين قرر أن يشارك فى الانتفاضة ضد الرئيس المخلوع باعتباره رئيساً فاشلاً وليس لكونه رئيساً موالياً لروسيا.
ولذا فإن هذا الثلث لن يعطى لمندوبى أوروبا من قوى المعارضة التى تحكم الآن بشكل انتقالى شيكاً على بياض، فإذا فشلوا فى إدارة شؤون البلاد مع الضغوط المتوقعة اقتصاديا وسياسيا من قبل روسيا فإن هذه الكتلة ستنقلب عليهم جنباً إلى جنب مع المتربصين بهم من الأصل من أنصار روسيا.
المفارقة أن أنصار روسيا فى أوكرانيا تظاهروا، فى أكثر من مكان، تظاهرات هائلة وضخمة، خاصة فى منطقة شبه جزيرة القرم، وشارك فيها مئات الآلاف من الأوكرانيين وأعلنوا رفضهم لما جرى فى بلادهم وعبروا عن ارتباطهم بروسيا، دون أن تغطيها تقريباً وسائل الإعلام الفرنسية المرئية والمكتوبة، فصحيفة الفيجارو كتبت الخبر فى ركن صغير من صفحتها الأولى رغم كبر الحديث ورغم حدوث مصادمات بين الفريفين وصلت إلى العاصمة كييف نفسها، فى حين أنها عنونت على مدار أسبوع كامل أخبار الثورة الأوروبية فى أوكرانيا.
أما اللوموند فقد كانت معالجتها صادمة وأصدرت فى عدد الخميس الماضى ملحقاً خاصاً بأوكرانيا من 8 صفحات تحدثت فيه عن أبرز محطات الثورة الأوكرانية بصورة تفصيلية، ولكنها أسقطت تماما الحديث عن الوجه الآخر أو الشق الثانى من المعادلة وهم أنصار روسيا، واكتفت بالحديث عن ورقة الضغط الكبرى التى تمتلكها روسيا وهى الغاز الذى تصدره لأوكرانيا.
معضلة إعلام العين الواحدة أنه بذلك يرتكب خطيئة مهنية كبيرة حين صور للقارئ الوضع فى أوكرانيا على أنه انتهى بهروب الرئيس الأوكرانى، وأن المعادلة بسيطة لا تضم إلا ثواراً ومستبدين، وأنصار أوروبا الديمقراطيين فى مواجهة أنصار روسيا غير الديمقراطيين، والحقيقة أن أوكرانيا مقبلة على وضع صعب للغاية، وأن بها انقساماً حقيقياً لا يلغى حقيقة أنها عرفت رئيساً فاشلاً، ومعه معارضة مشكوك فى نزاهة وكفاءة كثير من قادتها، وأن هذا هو مصير الدول التى ارتهن الاستقرار فيها بمصير قوى إقليمية كبرى بعد أن غابت أو اخترقت الدولة/ المشروع الوطنى، أو بعد أن فشلت فى أن تجدد نفسها وتجارى تطورات العصر.