أين ذهبت أيام يناير بعد 4 سنوات على الثورة؟ وأين ذهبت أحلامها وطموحات كل من شارك فيها، ومن دعى لها حتى لو كان عضوا أصيلا فى حزب الكنبة؟ المؤكد أن روح الشعب المصرى وضميره الحى تجسدا فى الملايين التى نزلت ميادين مصر المختلفة، والتعاطف الذى نالته من ملايين آخرين اكتفوا بالمشاركة فى احتفالات يوم التنحى.
لم يطالب الناس برحيل مبارك وهم فى بيوتهم جالسون أو على المواقع الإلكترونية يثرثرون، إنما كسروا حاجز الخوف ونزلوا فى الشوارع فى عز قوة الأجهزة الأمنية، وقالوا لا فى وجه سلطان جائر بقى حاكما 30 عاما.
والحقيقة أن انتفاضة الشعب أو ثورته العظيمة فى 25 يناير كانت حدودها وسقفها الحقيقى إصلاحية، رغم اتساع مشاركة الجماهير بصورة أكبر بكثير من بلاد أوروبا الشرقية، ومع ذلك فقد أنجزت تحولاً ديمقراطياً لأنه لم تتلبسها روح المراهقة الثورية التى أرادت أن تحمل أهداف الثورة ما لم تحمله، وتستنطقها بما لم تقله فى اتجاه التفكيك والهدم.
مشهد 12 فبراير 2011، أى فى اليوم التالى لتنحى مبارك: شباب مصر ورجالها ونساؤها ينزلون إلى الميادين لينظفوها ويقبلوا قرار مبارك بأن تتولى القوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، ويقبلوا ضمناً أو صراحة أى بديل يأتى من داخل الدولة أو حتى النظام طالما كان من خارج شلة التوريث ورجالات مبارك المقربين.
أيام يناير كان سقفها الأقصى هو إصلاح الدولة وتغيير مبارك وإجهاض التوريث، وحققت عقب 18 يوماً من ثورة الشعب هدفين من أهدافها، وكان أغلب الناس على استعداد أن يقبلوا بديل عمر سليمان حتى شهر سبتمبر (موعد انتهاء مدة مبارك الرئاسية) أو عمرو موسى أو أحمد شفيق أو كمال الجنزورى أو أى شخصية من داخل النظام أو حتى قائد عسكرى جرىء.
وبقيت المشكلة الكبرى أنه لم يكن هناك نظام إنما «لا نظام»، وأفراد أفشلوا أى فرصة لكى يتقدم أحد من داخل الدولة ويقول سنبدأ من هناك إصلاحا تدريجيا أبدى أغلب الناس استعدادا لتقبله.
أيام يناير تاهت لأن البوصلة غابت عن الجميع، فنظام مبارك الشائخ ودولته المترهلة لم يستطيعا أن يحولا شعار «الجيش والشعب إيد واحدة» إلى برنامج عمل يضع البلاد على المسار الصحيح، إنما إلى تخبط وسوء إدارة وضعف، دفع بالبعض (من حسنى النية) إلى فقدان الثقة فى المجلس العسكرى والهتاف بسقوط «حكم العسكر».
والحقيقة أن أيام يناير كانت تقول إن هناك طاقة ضغط جماهيرى قد فتحت لبدء مسار إصلاحى كانت له نتائج فورية أجهضت مشروع التوريث وأجبرت من بقى فى السلطة 30 عاماً على الاستقالة، وأخرى مؤجلة تركت فى يد الفاعلين السياسيين ممن كانوا فى الحكم أو الشارع وأضاعوها معاً.
البعض لم يهتم بنبض غالبية الشعب المصرى وعاش فى «جيتو النشطاء» المغلق، وتصور أنه يخدم الثورة حين عيّش مصر كلها على مدار أكثر من عام فى فعالياته الثورية التى حاصرت الأقسام ومديريات الأمن والوزارات السيادية، ونسى أو تناسى أن من تركوه يصول ويجول فى الشوارع والميادين والفضائيات المختلفة قد جعلوه مصدرا رئيسيا لخلق رأى عام غالب من المصريين رافض لممارساتهم، وينتظرون بأى ثمن من يخلصهم من هذه الفوضى والاستباحة الثورية، وخرجت إشارات كثيرة من العباسية ومن تجار وسط البلد تعبر عن سأمها ورفضها لهذه الممارسات، ومع ذلك لم يرها كل من تربى داخل ثقافة الجيتو الذى لا يرى من الأصل المجتمع المصرى.
إن تحقيق هدف أقل من طموحات الجماهير يعنى أنك لن تفقدها فى معركتك من أجل الضغط على النظام من أجل تحقيق باقى طموحاتها، لأن المسار الإصلاحى يرى أنه لابد أن تحافظ على مكون متماسك من النظام القديم، دستور الدولة ومؤسساتها، قوى بيروقراطية إصلاحية وغير إصلاحية، لكى تبدأ بها مع القوى الإصلاحية الموجودة خارج النظام مسار التحول الديمقراطى.
والحقيقة أن هذا المسار كانت ترجمته العملية تعنى منذ البداية وجود رئيس انتقالى من داخل الدولة (مقابل القائد باجى السبسى فى تونس) وتعديل دستور 71 وليس إسقاطه كما طالبت القوى المدنية وليس الإسلاميين فى مفارقة صادمة، ثم قواعد دستورية وقانونية لا تسمح بوجود جماعة دينية سرية فوق الدولة ولا تخضع لأى رقابة من مؤسسات الدولة ولها ذراع سياسية مثل الإخوان، وأخيراً إبعاد قيادات الحزب الوطنى الفاسدة التى زورت انتخابات 2010 وكانت سببا فى ثورة يناير والإبقاء على رجالات «حزب الدولة» الذين اعتادوا أن ينضموا إليه منذ الاتحاد الاشتراكى ثم حزب مصر وحتى الحزب الوطنى بجانب شبكات المصالح التقليدية المعروفة فى الريف وحتى بعض المدن، بما يعنى أننا سنكون أمام حزب وطنى يحصل بحد أقصى على 30% فى انتخابات برلمانية نزيهة ولا ينشغل الناس بحله، حتى توزعت عضويته على كل الأحزاب بما فيه الأحزاب المدنية التى ظهرت بعد ثورة يناير.
لقد اكتشفنا بعد عامين من الثورة أن هناك ما يقرب من نصف الشعب المصرى صوت لرئيس وزراء مبارك الذين ثاروا عليه (الفريق أحمد شفيق) بما يعنى أولاً أن كل الناس لم يثوروا على مبارك، وأن ثانيا هناك قسماً كبيراً فى مصر (مثل أى مجتمع) محافظ لا يقبل فكرة الثورة من الأساس، وهؤلاء اعتبرهم البعض كأنهم غير موجودين حتى اكتشفنا جميعا أنهم الأغلبية وأن جزءا كبيراً منهم مثل الظهير الشعبى لكل الخطاب المعادى لأيام يناير.
إن عدم تحييد الدولة وقسم من النظام القديم لصالح مشروع الإصلاح والديمقراطية قد دفع قطاعات واسعة منهم بعد 4 سنوات على ثورة يناير للانضمام إلى أقصى اليمين وبث طاقة كراهية ضد كل ما له علاقة بأيام يناير نتيجة مسار الفوضى والتخبط الذى تم تحميله لثورة يناير.
الخلل الرئيسى الذى دفع المجتمع المصرى ثمنه الكبير هو أنه لم يستلهم نماذج الثورات وتجارب التغيير الناجحة فى العالم كله، التى تقوم على أن التغيير والضغوط الشعبية هى من أجل إصلاح نظام قائم (ولو بتغيير أو إسقاط رموزه الفاسدة) وهى طريق النجاح من أجل بناء الديمقراطية ودولة القانون، على عكس طريق تفكيك النظام والدولة وإسقاط كل شىء لصالح الفوضى غير الخلاقة على الطريقة العراقية أو على طريقة بعض الثورات الشيوعية المنقرضة.
أيام يناير انكسرت ولكنها لم تغب، لأنها لاتزال طريق مصر للتغيير، بشرط تقديم صورة جديدة تستلهم الـ18 يوما الأنبل فى تاريخ مصر، وتعترف بأخطائها، وتعمل على بناء بديل أو بدائل سياسية قادرة على الفعل والضغط السياسى على النظام القائم، لأن معركة مصر كما قلنا مراراً هى بالنقاط وليس بالضربة القاضية.